عبدالحليم قنديل يكتب”عندما ترحل كورونا”

0 303
اخبار مشابهة
1 من 50

وباء “كورونا” ليس يوم القيامة ولا نهاية التاريخ ، فيوم القيامة فى علم الله وحده ، وأشراط الساعة لا يعلمها إلا هو ، أما “نهاية التاريخ” فقصة بشرية ، وكانت نبوءة مضللة للأمريكى من أصل يابانى فرانسيس فوكوياما ، وعنوانا لكتابه الشهير قبل ما يزيد على الربع قرن ، ثم تراجع عنها فوكوياما نفسه ، الذى كان ظن أن القصة انتهت ، وأن سقوط الاتحاد السوفيتى وكتلته الإشتراكية كان مسك الختام ، وأن لا أحد بوسعه بعدها ، تحدى الطبعة الغربية الرأسمالية والليبرالية ، وأن العولمة الغريبة هى الحل ، وأن “الأمركة” كمرادف للعولمة ، هى القدر الأخير بعد نفاد فصول الصراع الإنسانى .
المستشارة الألمانية ميركل عبرت سياسيا بطريقتها عن فزع “كورونا” ، وقالت أنه أكبر تحد يواجهنا منذ الحرب العالمية الثانية ، وقد كانت ألمانيا نفسها مهدا للحرب الثانية ، وكان هتلر المستشار الأسبق لألمانيا ، هو الذى أشعل الشرارة الأولى للحرب ، التى سقط فيها نحو ستين مليون قتيل ، ودمرت فيها عواصم أوروبا الكبرى ، ولم يكتف الغرب فى حربه بتدمير مدنه وأقطاره ، بل حطم شعوبا أخرى فى شرق العالم وجنوبه ، كانت كلها من ضحايا استعمار ومطامع “حلفاء” و”محور” الحرب الثانية ، التى أنهكت المركز الأوروبى للسيطرة الغربية ، وسمحت لحركات التحرير الوطنى بتحقيق انتصارات متوالية ، طوت عصر “سيادة الغرب” ، الذى استمر قرونا منذ سقوط غرناطة واكتشاف الأمريكتين ، وافتتحت عصرا من “تحدى الغرب” ، برزت فيه أدوار رموز من نوع ماو وسوكارنو ونهرو وجمال عبد الناصر وسلفادور الليندى ، حاصرهم المركز الأمريكى للسيطرة الغربية ، ونجح فى إطفاء الأنوار فى مناطق ، بينها عالمنا العربى المنكوب ، لكن قوة الدفع الهائلة لحركات التحرير ، ظلت تؤتى أكلها فى معارك التنمية بعد التحرير ، وتواصل أشواط التحدى حتى بعد سقوط موسكو الشيوعية ، وتبشر بدخول العالم إلى مرحلة “تجاوز الغرب” ، أى امتلاك ذات قوته المادية والتكنولوجية ، وإلى أن تفوقت المعجزة الصينية ، التى حققت فى أقل من أربعة عقود ، ما حققه الغرب فى خمسة قرون ، وبدت كقوة كاملة الأوصاف ، راحت تغير وجه العالم على نحو تدريجى فعاصف ، وتكتب التاريخ من جديد ، وتصوغ عالما أكثر اتزانا وإنسانية ، وتثبت تفوقها الباهر ، فى محطات ليس آخرها حرب “كورونا” ، التى تحول المشهد الأوروبى إلى أخطر مسارحها ، تماما كما كان عليه الأمر فى الحرب العالمية الثانية .
وفى المنازلة الكبرى ، بدت قوة الصين الطالعة عفية على نحو كاسح ، صحيح أن الصعود اليابانى سبق الصعود الصينى ، وكان التقدم اليابانى مقلقا للتفرد الأمريكى بقيادة اقتصاد العالم ، وكان عجز أمريكا التجارى فى مواجهة اليابان ظاهرا فى ثمانينيات القرن العشرين ، وبما دفع المؤرخ الأمريكى من أصل بريطانى بول كينيدى ، إلى إطلاق تحذير أخير ، فى كتابه الموسوم “نشوء وسقوط القوى العظمى” ، الذى ركز فيه على اختلال التوازن بين البندقية ورغيف الخبز ، وتحول أمريكا من أكبر دائن إلى أكبر مدين فى الدنيا كلها ، وتوقع أفول نجم القوة الأمريكية عالميا ، كما انحطاط الاتحاد السوفيتى ، والتدهور متصل بإطراد ، فقد تزايد الإنفاق العسكرى الأمريكى إلى ما يزيد على 750 مليار دولار سنويا اليوم ، وزاد عبء الدين الأمريكى إلى 22 تريليون دولار ، وزاد انحطاط العجز التجارى هذه المرة فى مواجهة الصين ، التى تستحوذ وحدها على 35% من تجارة العالم ، وبدت الصين كقوة عالمية أولى ، وحجم اقتصادها اليوم أكبر من حجم اقتصاد أمريكا بمعيار تعادل القوى الشرائية ، ولدى الصين احتياطيات نقد أجنبى بأرقام فلكية ، تجاوزت حاجز الأربعة تريليونات دولار ، وصارت الصين أكبر مستثمر فى ديون أمريكا عبر شراء سندات الخزانة الأمريكية ، والعجز الأمريكى فى التبادل التجارى مع الصين ، بلغ حافة الأربعمائة مليار دولار سنويا ، وهو ما أصاب أمريكا بذعر جنونى ، دفع إدارة ترامب إلى العودة لسلاح الحماية الصناعية ومضاعفة الحواجز الجمركية ، والانسحاب من العولمة الاقتصادية والتجارية ، التى قادت أمريكا الحركة إليها تاريخيا ، وعلى ظن إمكان تحويل العولمة إلى “أمركة” شاملة للعالم ، ومن دون تحسب لصعود الصين كقوة شاملة ، أى قوة اقتصاد وسلاح وتكنولوجيا نووية وفضائية ، ثم أن الصين عالم بكامله ، وقوتها البشرية تفوق الغرب الأوروبى والأمريكى مجتمعا ، وقد صار معيار القوة البشرية المتعلمة المدربة حاسما فى موازين العالم الجديد ، وفى أولوية اقتصاد المعرفة الزاحف ، ونجحت الصين فى تطوير نظامها التعليمى ، وهو الأكبر فى العالم بامتياز ، ويضم أكثر من 300 مليون شخص فى مراحله المختلفة ، وهو مجانى تماما ، ثم أنه صار الأفضل فى التصنيف الدولى ، وهو ما يفسر تطورات الصين المذهلة فى عوالم التكنولوجيا وتطبيقاتها ، وبالذات فى “الروبوتات” التى لعبت دورا هائلا على مسارح الحرب ضد وباء “كورونا” ، الذى هاجم الصين أولا ، وبضراوة مفزعة ، فاقت وقع هجمات هتلر الأولى فى الحرب العالمية الثانية ، ثم كان النجاح السريع للصين ، وفى التاريخ الذى حددته القيادة الصينية ، فلم تعد ترد أنباء عن إصابات يومية جديدة فى “ووهان” مركز الوباء الأول ، ومصانعها الكبرى عادت للعمل بكامل الطاقة ، وبدت الدولة الصينية الأكثر تفوقا فى المواجهة ، بسلطة مركزية راسخة ، تملك نصف الاقتصاد كملكية عامة ، وتخطط لنصفه الآخر المملوك للخواص ، وبتماسك فريد فى النسيج القومى ، فالصين ذات العدد المقارب للمليار ونصف المليار نسمة ، 94% من سكانها من قومية واحدة هى “الهان” ، وشعبها أبدى انضباطا حديديا فى تنفيذ توجيهات العزل والحجر والتطهير والتعقيم والوقاية ، ومقدرة الصين الاقتصادية والإنشائية بدت غلابة ، وأقامت مستشفيات ضخمة على أرقى مستوى فى أيام ، وحققت النسبة الأكبر عالميا فى حالات التعافى من إصابات كورونا ، وقدمت تطبيقات تكنولوجية ، فاقت بكثير شطحات وخيالات صناع أفلام هوليوود ، وتحركت فيها روبوتات الصين كجيوش بكائنات عظيمة الذكاء ، وقامت بأعمال التطهير والتعقيم للشوارع والمبانى وناطحات السحاب ، ومهمات الفحص واكتشاف المصابين ، وإدارة العمل فى المستشفيات ، وعلى امتداد مدن كبرى ، أولها بالطبع مدينة “ووهان” عاصمة مقاطعة “هوبى” ، التى تضم نحو ستين مليون نسمة ، أى بحجم دولة أوروبية كبرى ، إضافة لتكنولوجيا “البيج داتا” ، التى طورتها الصين ، ولا تملك دولة فى العالم ما يضاهيها شمولا ، وفيها سجل بيانات كل فرد صينى ، بياناته الشخصية والصحية والاقتصادية والمكانية ، إضافة لبرنامج الكشف الصحى الذاتى ، الذى طورته شركات الصين التكنولوجية العظمى ، علاوة على تقديم تكنولوجيات لرجال الشرطة وكوادر الجيش الأكبر عددا فى الدنيا كلها ، وعلى نحو تحولت معه الصين إلى مسرح خيال علمى بديع ، وصارت قبلة شفاء للحالمين بالنجاة ، ومدت يدها لأوروبا فى محنتها الراهنة ، التى حولت مدتها الكبرى إلى خلاء أشباح ، وقدمت لها ملايين الكمامات وأجهزة الكشف بالمجان ، كما قدمت بروتوكول العلاج علنا لبلاد الدنيا كلها ، وسبقت بإعلان تطوير لقاح ، وإجراء تجاربه السريرية ، وتستعد لإنتاج عقار “فافيبيرافير” بمليارات العبوات ، وبيعه للعالم المتلهف بسعر التكلفة ، بينما تبدو إدارة ترامب الأمريكية فى “حيص بيص” ، وهى تواجه غزو الفيروس الآخذ فى الانتشار بكثافة فى مدن أمريكا بعد مدن أوروبا الحليفة المنكوبة ، مع انكشاف ضعف وترهل السياسات الصحية والمنشآت الطبية ، ومع قصور فادح فى الإمكانيات المالية والتكنولوجية ، ومع محاولة ترامب شراء جهود شركة ألمانية كبرى متخصصة فى إنتاج اللقاحات الفيروسية ، وبما دفع مسئولا ألمانيا كبيرا للرد بالقول أن “ألمانيا ليست للبيع” ، ثم تردى ترامب إلى ما هو أسوأ ، وبدا مثيرا لشفقة لا يستحقها، حين أعلن مزهوا إمكانية استخدام دواء الملاريا فى علاجات كورونا ، وهو الخبر الذى سبقت الصين لإعلانه وتعميمه .
وباختصار ، لا تبدو “حرب كورونا” فى عزلة عن مصائر وصور العالم الجديد الزاحف ، فقد كانت للحرب العالمية الثانية نتائجها ، ورسمت صور العالم الذى أعقب نهاياتها ، سواء فى مرحلة القطبين السوفيتى والأمريكى ، أو فى مرحلة القطبية الأمريكية الأحادية القصيرة العمر ، بعد انهيارات موسكو الشيوعية ، لكن حقائق التحول فى موازين الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا ، راحت تلقى بآثارها وظلالها ، وعبر ميادين حروب بالنار، كان أظهرها ما جرى فى سوريا، مع إعادة تأهيل روسيا عسكريا ، ومع زحف القوة الصينية الصلبة والناعمة ، التى راحت تشكل فى هدوء ملامح عالم جديد ، هزمت الصين فيه أمريكا لمرتين ، مرة فى حرب العولمة الاقتصادية ، ومرة أخرى راهنة فى الحرب ضد وباء كورونا الكونى ، وربما لن يعود العالم أبداً عند رحيل “كورونا” إلى الذي كنا نعرفه

اترك رد