عبدالحليم قنديل”في إنتظار معجزة”

0 197

فى العراق نهران (دجلة والفرات) ، كاد ماؤهما يجف بسبب السدود التركية ، لكن نهر الدم العراقى لا يغيض أبدا ، بل يفيض دائما على دورات متسارعة ، فبعد ثلاثة شهور لا تزيد على توقف موقوت لموجات الاغتيالات السياسية ، وقد توالت وذهبت بالمئات من قادة انتفاضة أكتوبر 2019 ، التى راح ضحيتها نحو ثلاثين ألفا من الشهداء والجرحى والمعاقين ، ثم هدأت جبرا مع تداعيات وطوارئ وإغلاقات جائحة “كورونا” ، ومع أمل واهن بتشكيل حكومة مصطفى الكاظمى ، التى وعدت بالقصاص لدم الشهداء ، لكن الاغتيالات عادت من جديد ، وضربت هذه المرة واحدا من أشد المتفائلين بحكومة الكاظمى ، وأنهت حياة المحلل الأمنى المعروف هشام الهاشمى ، على بعد أمتار من منزله فى قلب بغداد ، وتماما كما نص تهديد أخير قيل أن الهاشمى تلقاه على هاتفه الجوال ، توعده بالقتل العاجل فى منزله .
وبالطبع ، فلا أحد يتوقع أن يكون الهاشمى آخر المغتالين غدرا فى العراق ، ولا آخر الذين تقيد قضايا قتلهم ضد مجهولين ، حتى لو بر الكاظمى بوعده ، واعتقل المتهمين بالقتل ، فسوف تنتهى القصة غالبا إلى إجراءات صورية ، ويكتفى الكاظمى بشراء حياته ، فلا شئ صار حقيقيا فى العراق اليوم ، فالحكومة افتراضية ، والجيش افتراضى ، والشرطة والقضاء إلى آخره ، والحقيقة التى تبقى صادمة صامدة حتى إشعار لا يجئ ، هى تحول العراق إلى ملعب مفتوح للقتلة ، وتلك مأساة متصلة متفاقمة منذ الاحتلال والغزو الأمريكى للعراق فى أبريل 2003 ، فلا دولة ولا وعاء حافظ للعراقيين ، والاحتلال الأمريكى تبعته الهيمنة المسلحة والاقتصادية والاجتماعية والدينية الإيرانية ، فيما ضاع العراقيون بين شقى الرحى ، انفصل شمال العراق الكردى بصورة عملية تامة ، وتحت خط الفصل ، لم يعد من تعريف للعراقى كعراقى ، فهذا سنى وهذا شيعى ، وهذا عربى وذاك كردى ، أو مسيحى أو تركمانى أو أيزيدى ، أو من عبدة النار ، وتحت كل طائفة تفريعاتها ، وفى كل عشيرة سنتها وشيعتها ، ولم يعد يجمع بين العراقيين سوى حد القتل ، إضافة إلى الفقر والتشريد والهوان ، فى بلد كان الأغنى بموارده الطبيعية المائية والبترولية فى المنطقة كلها ، لكن لا أحد يرحمك من القتل ، حتى لو كنت فقيرا ومهانا ومحروما من نعمة الشعور بهوية وطنية جامعة ، والفرصة الوحيدة عندك لتوقى القتل ، هى أن تكون قاتلا أو مستعدا للقتل ، أو أن تكون عندك رخصة حماية من عصابة قتلة ، وما أكثر جماعات القتل فى العراق ، فقد ولغوا جميعا فى الدم العراقى ، وحولوا أنهار الدم إلى بحار ومحيطات بلا شواطئ ، ملايين العراقيين هربوا من المقتلة الكبرى إلى خارج حدود العراق ، وملايين العراقيين الأكثر عجزوا عن الهروب ، واعتصرتهم المحنة الدموية ، وبكل أسلحة القتل قديمها وحديثها ، بحد السكين أو بطلقة رصاص أو بالكاتيوشا أو بصواريخ “كروز” ، قوات الاحتلال قتلت مئات الآلاف بل الملايين ، وحروب الأعراق والطوائف قتلت أكثر ، جماعات القتل (الشيعى) الصفوى طردت وشردت وقتلت لحساب الهيمنة الإيرانية ، وجماعات القتل (السنى) على طريقة القاعدة وداعش وأخواتها ، زايدت فى بورصة القتل إلى أقصى حد ، ولم تعف أحدا ، لا سنيا ولا شيعيا ، من مصائر التدمير والسبى والاغتصاب وقطع الرقاب ، وكلهم يصيحون (الله أكبر) لحظة القتل ، وفى نشوة إيمانية مزورة ملتاثة ، وتحت رايات (لا إله إلا الله) و(آل البيت) و(ياحسين) ، أو غيرها من السرديات المتوحشة باسم الإسلام ، بينما لا علاقة لهم جميعا بالإسلام ولا بالإنسانية من أصله ، وبما قد يذكرك بمقولات قديمة لعالم الاجتماع العراقى الشهير على الوردى ، كان الوردى يبحث عن أصل القسوة فى التكوين العراقى ، وكان يركز على اختلاط معانى البداوة والتحضر ، وظواهر الأصوات الزاعقة بالمبادئ والمثل العليا ، التى تضادها حقائق التعصب والقتل باسم الطائفة والدين ، بينما قد يكون القاتل فى الغالب “ملحدا” بسيرة حياته وسلوكه اليومى .
وقد لا تكون القصة فى الشخصية العراقية ، وازدواجها الحاد على ما ذهب إليه الوردى ، ولا فى النفاق القاتل المعتق ، الذى ينسبه البعض لأقوال وعظات من سيرة الإمام الجليل على ابن أبى طالب رضى الله عنه ، وتجاربه المريرة القاسية مع أهل الكوفة ، أو ما جرى من بعده فى مقتلة الإمام الحسين ، ودموية الحجاج بن يوسف الثقفى من فوق منابر المساجد ، فقد كان العراق لآلاف السنين تعبيرا جغرافيا لا سياسيا ، وكانت حاضرته (بغداد) واسطة العقد فى أعظم مراحل ترقى الحضارة الإسلامية ، فى الفقه والعلم والتصوف والفلسفة والفن والموسيقى والغناء ، كما فى الشعر العربى ، الذى يظل المتنبى (العراقى) أميره وملكه المتوج على مر العصور ، وإن كان مقتل المتنبى فى ذاته إشارة دالة على المصير الدموى المتكرر ، وقد راحت بغداد الحضارة الإسلامية العربية ضحية الاجتياح المغولى ، وضحية مكائد القصور والأعاجم ، وإلى أن ذوت خلافة العباسيين بالضمور العائلى والتآكل والموات الطويل ، وإلى أن دخلنا فى عصور العثمانيين المترعة بالتخلف ، وظل العراق معنى جغرافيا لا حقيقة سياسية ، وإلى أن تكون العراق الحديث الذى نعرفه منذ نحو مئة سنة ، وعلى مراحل ثلاث ، ملكية استعمارية ، فجمهورية ديكتاتورية ، فاحتلالية إفنائية متصلة إلى اليوم ، وكان تكوين العراق السياسى هجينا مختلطا ، وشبيها بلقاء الخناجر و(الغدارات) المختزنة تاريخيا فى النفوس ، وبغير عمود فقرى ناظم متسق متجانس فى طبيعته ، وأقرب إلى “بواقى الفساتين” الإثنية والطائفية ، فالفستان الكردى (التركى والإيرانى) ممتد فى رأس العراق ، والفستان السنى ممتد من نواحى الشام والجزيرة العربية ، والفستان الشيعى ممتد من إيران ، بتشيعها الصفوى الغالب ، المخالف فى تكوينه للتشيع العلوى العربى بطبع نشأته ، وتكوين مختلط خطر من هذا النوع ، يحتاج إلى أفران صهر ، قد تكون بلغت ذروة حرارتها الخانقة فى عهد صدام حسين بالذات ، استنادا إلى كون (العروبة) هى القاسم المشترك الأعظم فى الاختلاط العراقى ، وفى تطوير لذات الفكرة التى نشأ بها العراق كتكوين سياسى ، إذ جرى استقدام ملك عربى من خارج العراق ، وقبل به العراقيون العرب من السنة والشيعة ، وبحكم رخو نسبيا تحت سيطرة الاستعمار البريطانى ، وبرغم الانتقال فيما بعد من الرخاوة الملكية إلى الاستبداد الجمهورى ، والانتقال إلى حكم العراق بعراقيين ، إلا أن خيط الدم لم يغب أبدا ، فيندر أن تجد حاكما للعراق مات على سريره ، وحتى صدام حسين ، الذى صعد إلى السلطة بانقلاب عسكرى أيديولوجى ، بدا كأنه يطارد أقدار اغتياله ، فقد كان محكوما عليه بالإعدام قبل أن يصل إلى الحكم ، ثم انتهى إلى قدره المكتوب على المشنقة بعد الاحتلال الأمريكى ، وقد لايصح أن ينكر أحد دموية حكم صدام ، فقد كان الرجل قوميا عربيا بامتياز ، لكنه كان عراقيا مطبوعا بطبع حوادث بلده وتاريخه ودولته ، كان بدويا ومتحضرا فى الوقت نفسه ، مندفعا وشجاعا وقليل الاكتراث حتى على حبل المشنقة ، لكن الحساب الدموى لصدام على وطأته ، يظل محدودا لو قورن بما جرى بعد شنقه واحتلال العراق ، ربما لأن حكم صدام كان المتعهد الوحيد لأحكام القتل فى زمانه ، وكان القتل من نصيب معارضيه غالبا ، أما ما جرى من بعده ، فكان شيئا آخر تماما ، فقد تكاثر المتعهدون بالقتل ، وصاروا جهات وعصابات بالآلاف ، ودونما فرصة نجاة محققة لطرف بذاته ، إلا بقدر ما لديه من سلاح ، يدفع به الخطر عن نفسه وأهله ، وهذا هو المعنى الذى قصدناه بتعبير “الاحتلال الإفنائى” الحاضر فى العراق ، فقد ذهبت الدولة الحارسة إلى قبرها ، بقرارات الاحتلال حل الجيش واجتثاث حزب البعث وتهجير وتقتيل كوادر الاحتراف فى إدارة جهاز الدولة ، وإحلال الخراب الشامل ، والتحول إلى معانى دولة صورية وافتراضية تماما ، والابتلاء بفساد وتوحش جماعات اليمين الدينى ، وحروب الطرد والفرز الطائفى الهمجى ، وتنصيب حكومات الدمى الأمريكية والإيرانية على التوازى أو بالتتابع ، وتسييد مليارديرات النهب المحمية بعصابات السلاح المنفلت ، وجعل العراق حلالا للأطيار من كل جنس ، إلا للعراقيين الوطنيين ، وجعل الساحة العراقية “عناوين بريد” لصدامات الآخرين ، وهكذا دخل العراق كتكوين سياسى وطنى جامع إلى مرحلة الإفناء شبه الكلى ، التى لا عاصم منها سوى بمعجزات وثورات غضب كاسح للاحتلالين ، توالت على طريقها انتفاضات الناس ، بفوائض حنين مضاعف إلى العراق الذى كان عزيزا مقتدرا ، وصار مغدورا غارقا فى دمه كما الإمام الحسين ، لا يطلب سوى التشيع للعراق لا التشيع عليه ، فالعراق اليوم فى أمس الاحتياج لعراقيين يشبهون ألمه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.