“من النهر إلى البحر” عبد الحليم قنديل

0 192

ليس فى كل مرة تسلم “الجرة” ، فقد مر الفاتح من يوليو الجارى ، من دون أن يبدأ رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو فى تنفيذ وعده القاطع بالضم النهائى لمناطق فى الضفة الغربية المحتلة ، وعلى خرائط الأسباب ، ظهر ضباب كثير مختلط مخادع ، من نوع الخلاف بين نتنياهو وحليفه بينى جانتس على أولويات الحكومة المشتركة ، أو من نوع الجدال حول تأخر ظهور الضوء الأخضر من واشنطن ، أو التحذيرات المشددة من قادة أمنيين وعسكريين سابقين لنتنياهو ، وتكرار المخاوف من نشوب انتفاضة فلسطينية جديدة ، تداعت بعض أماراتها إلى الميدان. وقد لا يكون كل ذلك مهما ، ولا باعثا على ارتياح من أصله ، فقد بدأ موسم الضم والباقى تفاصيل ، وسواء جرى الضم على مراحل ، أو بدأ من تكتلات استيطان يهودى بعينها ، أو جرى تأجيل ضم منطقة “الأغوار” وشمال البحر الميت قليلا أو كثيرا ، فقد قضى الأمر ، وتقررت عمليات القضم ، بهدف إلحاق نحو ثلث الضفة الغربية بكيان الاغتصاب الإسرائيلى ، بعد ما جرى من قبل ، بضم القدس المحتلة بكاملها ، وبعد ضم الجولان المحتل ، وبتأييد أمريكى زاعق ، يصعب تكراره إذا هزم ترامب فى انتخابات الرئاسة المقبلة . وقد لا نكون بحاجة لتأكيد مغزى موجة الضم النهائى ، فهى تعنى امتداد كيان الاحتلال على أرض فلسطين بكاملها ، من نهر الأردن إلى البحر المتوسط ، ولا تستبقى للفلسطينيين سوى كانتونات منفصلة ، بعضها بصورة تجمعات سكانية محاصرة فى الضفة ، إضافة لغزة المحاصرة من كل اتجاه ، وهو ما يعنى ببساطة ، أنه لم تعد من إمكانية جغرافية وسياسية لما أسمى طويلا “حل الدولتين” ، ولم يعد بوسع خيال محلق ، مهما بلغت عبثيته و”سيرياليته” ، أن يتصور خريطة هذه الدولة الفلسطينية المنفصلة عن دولة الاحتلال ، ولا صلاحيات هذه السلطة الفلسطينية البلدية التى ستبقى شكلا ، سواء فى رام الله أو فى غزة ، والتى يصر البعض على استمرارها ، برغم التحلل الرسمى المعلن من اتفاقات وجودها ، ومن التزاماتها المتراكمة مع الأمريكيين والإسرائيليين ، بوقف التنسيق الأمنى والمدنى ، وبالإلغاء العملى لاتفاقات أوسلو وما تلاها ، وكلها إجراءات تبدو هذه المرة أكثر جدية ، وإلى حد إخلاء المقرات الرسمية كما قيل من الوثائق الفلسطينية السرية ، ونقلها كما قيل إلى أماكن آمنة تحسبا لاجتياح عسكرى إسرائيلى وشيك ، قد يأتى ردا على تصاعد الهبة الشعبية الفلسطينية . وربما لم يعد الفلسطينيون بحاجة إلى مزيد من مهرجانات الأقنعة ، ولا تكرار الحديث عن السلام والتسويات السقيمة إياها ، والتعويل على ما تسمى “اللجنة الرباعية الدولية” ، أو على اعتراضات أوروبية قلقة مما تفعله إسرائيل ، أو على تلاعب ونفاق مكشوف من أنظمة عربية وإسلامية لا تملك قرارها ، ولا تستبقى قضية فلسطين فى حسبانها ، ولا على إنهاء الانقسام الفلسطينى المزمن بين “فتح” و”حماس” ، وقد صار كلاهما فى صورة “دولة افتراضية” ، لكل منها علاقاتها وارتباطاتها المتعارضة ، فى بيئة إقليمية هائجة مائجة ، لن تستقر قريبا على مشهد ختام ، وقد صارت كل هذه القضايا الفرعية وزوايا النظر المريض ، مما تجاوزته تطورات اللحظة ، مع الشروع الإسرائيلى فى الضم النهائى ، ولم يعد ممكنا ولا مفيدا ، أن ننتظر وفاق الفصائل ولا افتراقها ، بينما الممكن والمفيد الوحيد ، أن تعود القضية بكاملها إلى أيدى الشعب الفلسطينى ، وأن تزال العوائق كلها من طريق حركته ، وأولها عقبة وجود السلطة الفلسطينية فى ذاتها ، التى قد يصح الآن أن تحل رسميا ، هى وقرينتها القائمة فى غزة ، وأن يعاد تنظيم الحركة الوطنية الفلسطينية فى إطار جامع وحيد ، هو منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعى وحيد ، ليس للشعب الفلسطينى فى الضفة وغزة والقدس المحتلة وحده ، بل للشعب الفلسطينى فى عموم فلسطين ، من النهر إلى البحر ، وللشعب الفلسطينى فى مواطن الشتات والتهجير واللجوء ، مع طى صفحة مشروع “حل الدولتين” ، والتقدم إلى مشروع وهدف الدولة الديمقراطية الواحدة فى كل فلسطين التاريخية ، وخوض انتفاضات كفاحية متصلة ضد كيان الاحتلال الإسرائيلى ، الذى تحول نهائيا مع قرارات الضم الأخيرة ، إلى كيان “أبارتهايد” أو فصل عنصرى بامتياز . نعم ، لم يعد مستساغا ولا هو صحيح ، أن تعود قضية الشعب الفلسطينى إلى نظام الحل بالقطعة ، ولا تقديم صكوك تنازلات تاريخية عن أغلب أراضى فلسطين ، مقابل أمل باهت فى استرداد جزء ، تقام عليه دولة فلسطينية ، وقد سقط هذا الأمل الصغير المراوغ بقرارات الضم الأخيرة ، حتى لو جرى التدرج الإسرائيلى المخادع فى تنفيذها، فما من معنى لأن تواصل اللعب فى ميدان يرسم عدوك حدوده ، ثم يضيق عليك ويضغطك حتى تنسحق ، وألف باء السياسة هى الهندسة العكسية ، وإعادة فتح الميدان الأصلى للقضية ، خصوصا مع تزايد الغلبة السكانية للفلسطينيين فوق الأرض المقدسة بكاملها ، حتى لو كان قد جرى حشرهم فى زوايا أرض ضيقة ، لكنها أكثر اتساعا بكثير من قفص الدولة الفلسطينية المنفصلة إياها ، وبوسع خرائط الانتشار السكانى الفلسطينى أن توسع فى الأرض ، وأن تكون ثقلا أكبر بما لا يقاس فى صيغة الدولة الواحدة بحقوق متساوية لكل سكانها ، التى تنتهى بقرارات الضم الإسرائيلية إلى خواء وفوات تاريخى ، وتحول صفقة أو “صفعة” القرن إلى ضربة مزلزلة ترتد لكيان الاغتصاب الإسرائيلى ، وبشروط عاجلة ، يملك الشعب الفلسطينى وحده ناصية تحقيقها ، فليس لدى الفلسطينيين ما يخسرونه ، إذا جرى حل السلطة باعتبارها من منتجات “أوسلو” الملغاة رسميا ، وإذا أعلنت منظمة التحرير سحب اعترافها السابق بشرعية وجود دولة إسرائيل ، وإذا ترك الأمر سجالا بين سلطة الاحتلال المسيطرة على كل فلسطين ، وبين الشعب الفلسطينى فى عموم فلسطين ، ودونما مناطق (أ) ولا (ب) ولا (ج) ، ولا خط أخضر وهمى ، بين الأراضى المحتلة فى 1948 والأرض المحتلة فى 1967 ، مع إعلان الطلاق البائن القطعى مع وهم الدولة الفلسطينية المحدودة فوق أراضى 1967 ، واستعادة قضية تحرير فلسطين بكاملها من سيطرة الاحتلال الصهيونى العنصرى ، وإقامة دولة ديمقراطية واحدة ، يكون فيها للصوت الفلسطينى العربى أرجحيته فى تقرير المصير ، بحكم الغلبة السكانية المتزايدة ، والتآكل المتصل لمشروع تهجير اليهود الصهاينة لاحتلال واستيطان فلسطين ، وهذه متغيرات موضوعية مؤثرة ، لم يكن حضورها ساطعا ، بقدر ما باتت عليه اليوم ، فقد خلق الشعب الفلسطينى خلقا جديدا عفيا متكاثرا ، وعاد بندول التحول السكانى لصالحه بإطراد منذ أواسط العقد الثانى من القرن الجارى ، فيما جفت أو تكاد موارد المدد البشرى اليهودى المستعد للذهاب إلى فلسطين المحتلة . والمعنى الذى نقصده فى تمام الوضوح ، فالكيان الإسرائيلى هو آخر ظاهرة استعمار استيطانى عنصرى ، ولا ينجح أى احتلال استيطانى ، ما لم ينه الوجود المؤثر للسكان الأصليين ، وهو ما لم يحدث ، لا فى الجزائر ولا فى جنوب أفريقيا ولا فى فلسطين ، وقد كان الاستيطان شرسا مسلحا حتى الأسنان فى الحالات الثلاث ، وكانت قواته المسيطرة نووية كلها ، كانت فرنسا النووية فى الجزائر ، وكان نظام “الأبارتهايد” نوويا فى جنوب أفريقيا ، والاحتلال الإسرائيلى نووى هو الآخر ، لكن القنابل البشرية سجلت فى النهاية انتصارها على السلاح النووى ، وعبر أساليب كفاح ممتدة لعشرات السنوات ، جمعت الكفاح المسلح إلى الكفاح الشعبى الجماهيرى ، وبإصرار متصل ، لا يبالى أبدا بضخامة التضحيات ، وهو ما يستطيعه الشعب الفلسطينى ، وبأساليب كفاح تتنوع بحسب خرائط تواجده ، فما يصلح فى الضفة وغزة والقدس المحتلة ، قد لا يكون هو ذاته ما يفيد فى الداخل المحتل منذ نكبة 1948 ، المهم هو بلورة قضية واحدة تجمع الكل ، عنوانها إنهاء النظام العنصرى الصهيونى ، ومزج الحقوق المدنية للفلسطينيين مع الحق القومى ، وكسب كل صوت إنسانى حر ضد نظام الفصل العنصرى فى فلسطين كلها ، ودونما تفريط فى استقلال الصوت الفلسطينى ، ممثلا فى منظمة التحرير ، ومواصلة كسب الاعتراف والتأييد العالمى ، فى بيئة دولية جديدة ، ظهرت بعض ملامحها مع مضاعفات جائحة “كورونا” ، تمتاز بالنفور الشعبى المتزايد من العنصرية ، وتحطم تماثيلها وأصنامها ، والصهيونية ليست سوى واحدة من عناوين عنصرية الغرب ، الذى يتراجع دوره فى موازين الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا ، ويتقدم دورعناوين الشرق المتقدم الأكثر تفهما لقضايا المظلومين ، لكن لا أحد ينتصر لقضيتك ما لم تنتصر لها أنت أولا ، والشعب الفلسطينى قادر على الانتصار لقضيته ، ليس بموجة غضب عابر ، بل بانتفاضة روح جديدة ، تزال من طريقها عوائق التقييد ، وتحطم الاستكبار الصهيونى العنصرى بحرب استنزاف طويلة المدى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.