العالم الذى تصنعه الصين بقلم عبد الحليم قنديل

0 377

إذا عطست الصين ارتعش العالم ، تبدو القاعدة صحيحة ومنطقية تماما ، ويبدو العالم آخذا فى التحول أكثر فأكثر إلى صناعة صينية خالصة ، من الاقنصاد والتجارة والتكنولوجيا والتعليم إلى وباء ” كورونا” .
وبينما كانت منظمة الصحة العالمية ، تعلن تحول “كورونا” إلى وباء عالمى ، كانت الصين ، التى بدأت منها غزوة “كورونا” ، تعلن انتصارها المبدئى فى بؤرة الإصابة المفزعة الأولى ، فى “ووهان” عاصمة إقليم “هوبى” ، التى اجتاحها الوباء قبل خمسة وسبعين يوما ، وظلت الأرقام تتصاعد فيها بالآلاف يوميا ، وإلى أن وصلت إلى ما يزيد على الثمانين ألفا ، ثم تراجعت أرقام الضحايا فى الأسابيع الأخيرة تدريجيا ، وإلى أن نزلت إلى خانة الرقمين فى الوفيات اليومية ، وتواصل التراجع إلى ما يقترب من حد التلاشى ، وهو ما يعطى مصداقية هائلة لدقة البيانات الصينية ، التى تتوقع إعلان الصين قريبا كدولة خالية من فيروس “كورونا” .
بدت القصة واحدة من معجزات الصين التى لا تكف عن إبهار العالم ، فمع الأيام الأولى من العام الجارى ، أتى خبر “كورونا” السئ من الصين ، وبدت القصة كحملة اجتياح بيولوجى ، تهدد بقصف أعمار عشرات الملايين من الصينيين ، وتعددت الروايات عن منشأ الوباء ، وسرت حالة من التنمر ضد الصين وأهلها ، مع أفراح وموجات شماتة لا تخفى ، واستبشارات ملتاثة ، عبرت عن شعور مجنون بالارتياح ، وآمال عند الكارهين بقرب سقوط النهوض الصينى العارم ، لكن الصين ، وعلى طريقة مفاجآتها المدوية ، التى تهزم الأساطير المكذوبة ، قلبت الموازين كالعادة ، وقدمت درسها لمن يريد أن يتعلم ، وواجهت الخطر المحدق بشجاعة وتصميم وتعبئة وعلم وتكنولوجيا ، واتخذت إجراءات غير مسبوقة ، أغلقت المطارات والموانى والمزارات السياحية الكبرى ، وعزلت مناطق الخطر تماما ، وألزمت عشرات الملايين بيوتهم ، وقادت حملات تطهير وتعقيم مبهرة لمدن مكتظة بملايين الناس ، وأنشأت مستشقيات على أرقى مستوى فى أيام ، ونجحت شركاتها العظمى فى توفير أكبر ميزانيات الدنيا فى التجهيز والتطهير والعلاج ، بينما نجحت الدولة فى التجييش الشعبى العام ، وأعلنت من البداية ، أن شهر مارس 2020 ، سوف يشهد انحسار الوباء فى الصين ، وهو ما تحقق بالفعل ، وكانت زيارة الرئيس الصينى شى جين بينج إلى “ووهان” ، إشارة مباشرة إلى النجاح الذى جرى ، وإلى التعافى التام لتسعين بالمائة من المصابين ، وبطرق علاج مبتكرة ، سبقت الصين إليها ، وإن كان أمرها مستغلقا حتى تاريخه ، وعلى طريقة ما يقال عن استخدام بلازما المصابين ، أو توليفات من أمصال وأدوية سابقة لوباءات وأمراض “الإيدز” و”إيبولا” و”سارس” وغيرها ، إضافة إلى طرق أخرى تنتمى لعالم الطب الصينى التقليدى ، وربما لن تمضى سوى أيام أو أسابيع ، حتى تعلن الصين انتصارها الكامل ، وتغدو قبلة العالم فى طلب الشفاء ، بعد أن اجتاح وباء “كورونا” جغرافيا العالم المتخلف والمتقدم ، وكادت تختفى أخبار الصين كمركز للوباء ، بينما صارت الأخبار الأولى المرعبة ، حكرا على “إيران” و”إيطاليا” ، ودول أوروبية أخرى ، وحتى أمريكا الأغنى ، التى قيل أنها دبرت الحرب الجرثومية ، صارت طعاما سهلا للوباء ، وارتبكت خطوات إدارتها فى مواجهة الخطر الزاحف ، وصارت مثيرة للسخرية ، تماما على نحو ما تغرى به فى العادة تغريدات الرئيس المهووس ترامب .
وقد لا نريد هنا الدخول فى دوامات “كورونا” ، ولا فى سيل الأخبار والتقارير والتفاسير والتخاريف ، التى تتشاركها مليارات البشر اليوم ، وعلى مدى النهارات والليالى بغير انقطاع ، والتى يصور بعضها وباء “كورونا” كأنه يوم القيامة ، مع أن العالم وتاريخه ، شهد أوبئة أكثر فتكا وتدميرا ، وراح ضحيتها مئات الملايين من الناس ، بينما الصين التى اجناحها وباء “كورونا” أولا ، لم يمت فيها بالمرض المستجد ، سوى أكثر قليلا من ثلاثة آلاف شخص ، من بين عدد سكانها المتجاوز بكثير لحاجز المليار ونصف المليار نسمة ، وقد لا ندعو هنا إلى تهويل ولا إلى تهوين ، فسوف تمضى القصة كلها إلى نهايتها فى وقت قريب ، وأخطر ما فيها هو الفزع العام ، الذى تشارك فى صنعه ، سيولة وسهولة وتقدم وسائل الاتصال الشخصى ، التى حولت مليارات البشر مع مليارات الموبايلات ، إلى علماء وأطباء وخبراء ومفتين ، خيل إلى بعضهم ، خاصة فى عالمنا العربى والإسلامى ، الموبوء بالخرافات والتخلف المادى والعقلى ، أنه دعا على الصين بالسوء ، فأصابها ما أصابها عقابا من الله ، وهو ما يوجد مثله ، حتى فى العالم الغربى المتقدم صناعيا وتكنولوجيا ، فوباء الخبل متاح للجميع ، لكن فرص النجاة ليست متاحة بهذا القدر من التساوى ، ولا ممكنات الأخذ بالأسباب كما يأمرنا الله ، ولا تجاوز الخطر بالكفاءة نفسها ، ولا قلب المحنة إلى نعمة ، وعلى نحو ما فعلت الصين ، التى قدمت درسا ملهما فى العظمة الإنسانية ، حين تتوافر الإرادة الصارمة المعظمة للإمكانيات ، فنحن بصدد بلد معجزات حقيقى ، يرد الاعتبار لمعنى الشرق الخير فى صيرورة البشر ، فالشمس تأتى دائما من الشرق ، ربما الجديد ، أن الإلهام ونور العقل صار يأتى من الشرق أيضا .
نعم ، ظل العالم الحديث ، على مدى قرون ، ومنذ إنطفاء وهج الحضارة الإسلامية الكبرى ، وبالذات منذ سقوط “غرناطة” واكتشاف الأمريكتين ، وعبر ما يزيد على خمسة قرون خلت ، ظل العالم فيها أسيرا لفكرة تقدم الغرب وطغيان الغرب ، وراحت أغلبية البشر ضحية لتحكم الغرب وكشوفه وغزواته ، وحتى نهاية ما يسمى بالحرب العالمية الثانية ، كانت السيادة للغرب الناهض والاستعمارى معا ، وكنا كغيرنا من الضحايا المفضلين ، وعلى امتداد جنوب العالم ومشرقه ، وعلى خرائط ما كنا نعرفه سياسيا بتسمية “شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية” ، وكانت الصين من بين أكبر الضحايا ، لكن نهاية الحرب الثانية ، التى كانت حربا غربية بامتياز ، وراح فيها ما يزيد على الستين مليون قتيل ، أضعفت السيطرة الغربية فى مركزها الأوروبى بالذات ، مما أتاح فرصا لانتصارات حققتها حركات التحرير الوطنى فى الشرق والجنوب المظلوم ، وهكذا تكونت سيرة جديدة ، لعلها جديرة بتسميتها “عصر تحدى الغرب” ، وكانت المنطقة العربية فى قلبها ، إضافة لعالم عدم الانحياز بمعايير زمانه ، وإضافة للصين الكبرى ، التى أكملت مسيرة الألف ميل بقيادة ماوتسى تونج عام 1949 ، وانطوى التطور الذى كان جاريا ، على معنى التحدى دون تجاوز الغرب ، الذى واصل التحكم بنوع مختلف تحت القيادة الأمريكية ، وبينما خرجت المنطقة العربية من السباق بعد حرب أكتوبر 1973 وما بعدها ، وتردت إلى عصر سيادة الغرب الأمريكى الإسرائيلى هذه المرة ، فيما كانت بقاع أخرى فى شرق العالم وجنوبه ، تواصل سيرها الطامح لتجاوز الغرب ، أى امتلاك نفس طاقاته المادية والعلمية والصناعية والتكنولوجية ، وفى تجارب عديدة ناجحة ، وصلت إلى ذروتها بالمعجزة الصينية ، التى حققت فى أربعة عقود لا تزيد ، ما حققه الغرب طيلة خمسة قرون وتزيد ، ومنذ إنطلاقة دينج هسياوينج ، وتبنيه لفكرة اقتصاد السوق الاشتراكى ، وبمعدلات تنمية خارقة ، قفزت بصادرات الصين من نحو عشرة مليارات دولار فى بداية ثمانينيات القرن العشرين ، إلى نحو خمسة تريليونات دولار سنويا اليوم ، وبما جعل الصين ، تستحوذ وحدها على 35% من التجارة فى الدنيا كلها ، وتتحول إلى أكبر ورشة صناعة وتكنولوجيا فى تاريخ العالم .
وكثيرا ما يقال ، أن الصين سوف تلحق بأمريكا ، وربما تتجاوزها فى عام 2030 ، وهذه قراءة مضللة بعض الشئ ، فالحساب الحقيقى ليس بأرقام الناتج القومى مجردة ، بل بتعادل القوى الشرائية ، أى بحسابات ما يشتريه الدولار الواحد فى الصين مقارنة بأمريكا ، ووفقا لها ، فقد تجاوزت الصين أمريكا بالفعل فى قيمة الناتج القومى الإجمالى ، وصارت بالفعل قوة العالم الاقتصادية الأولى من سنوات ، وأمامها إمكانات توسع بلا حدود ، وحتى الهزة التى أصابتها مع وباء “كورونا” ، تبدو عابرة الأثر تماما ، وبوسعها التعويض فى أقرب فرصة عن خسائر تجارة بنسبة 11% ، فالصين قوة كاملة الأوصاف ، سلاحا واقتصادا وتكنولوجيا وبشرا مدربا ، ونظامها التعليمى صار الأفضل فى التصنيف العالمى ، وبوسعها تحويل قوتها البشرية الجبارة ، إلى مدد لا تنفد عوائده ، وهى تصنع العالم الجديد فى تواضع يليق بالقادرين الواثقين .

اخبار مشابهة
1 من 50
اترك رد