“حرب استنزاف عالمية” بقلم
عبدالحليم قنديل

0 9

هل من جديد فى حرب أوكرانيا ؟، ليست القصة طبعا فى “الهجوم المضاد” الذى يتعثر ، ويترنح إلى الآن على صخرة الدفاعات الروسية الحصينة فى الشرق والجنوب ، ولا القصة فى غارات مسيرات أوكرانية على موسكو وشبه جزيرة القرم و”جسر كيرتش” و”بيلجورود” وغيرها ، فهذه كلها ألعاب دعائية ومعنوية ورمزية ، ومن دون أثر حربى ملحوظ ، وطلقات دخان طائش ، ربما لإخفاء التحول الأخطر فى سيرة الحرب ، التى كانت من بدايتها ذات طابع عالمى ، ثم صارت عالمية كاملة الأوصاف ، وإن ظلت مقيدة جغرافيا بحدود أوكرانيا ، ومسقوقة حربيا بعدم التورط فى صدام بالسلاح النووى ، لكن الجديد الذى طرأ فى الأيام الأخيرة ، أن جبهات الصدام بالسلاح ، تتداخل وتندمج جغرافيا الآن مع جولات الصدام على جبهة الاقتصاد ، وتتحرك قوافل الحرب من البر إلى البحر ، وبالذات منذ قرار روسيا الأخير بالخروج من اتفاق الحبوب ، ثم إعلان موسكو إغلاق “البحر الأسود” أمام سفن الحبوب القادمة من الموانئ الأوكرانية ، واتجاهها لتدمير ميناء “أوديسا” وغيره ، مما تبقى صالحا للعمل فى خدمة كييف ، وإلى حد قصف ميناء “رينى” الأوكرانى عند نقطة التقاء البحر الأسود مع نهر “الدانوب” ، وعلى بعد خمسمائة متر فقط لا غير من حدود “رومانيا” العضو فى حلف شمال الأطلنطى “الناتو” .
ويبدو الهدف الروسى القريب فى تمام الوضوح ، فموسكو تريد خنق أوكرانيا تماما من كل الجهات ، وإنهاء فسحة عام اتفاق الحبوب ، الذى تمكنت كييف فيه من تصدير ملايين من أطنان الحبوب ، بينها ثمانية ملايين طن من القمح ، لا تشكل سوى 4% من تجارة القمح العالمية ، المقدرة بنحو 200 مليون طن سنويا ، وتحتل فيها روسيا مكانا متقدما ، وباستعداد لتصدير ما يصل إلى 50 مليون طن سنويا ، تواجه مصاعب العقوبات الغربية المفروضة على موسكو ، والتى زاد عددها إلى اليوم على 15 ألف عقوبة ، لم تحقق الهدف المراد فى خنق الاقتصاد الروسى ، الذى تجاوز بسلاسة عواقب تفجير خطى أنابيب “نورد ستريم” ، وامتناع أغلب الدول الأوروبية عن شراء الغاز والبترول الروسيين ، وفرض سقف أسعار للمنتجات البترولية الروسية ، رفضته موسكو ، وامتنعت عن التصدير المباشر لمن تسميهم “الدول غير الصديقة” ، وهم طائفة واسعة من الدول على رأسها أمريكا ، عوضتها موسكو بالاتجاه شرقا وجنوبا ، وتكثيف تصدير الطاقة بالتعاون مع الصين والهند والشرق الأوسط ، وراحت تبيع منتجاتها البترولية والغازية بأسعار تفضيلية مخفضة للأصدقاء ، زادت بحكم احتياجات السوق ، إلى ما فوق سقف الستين دولارا لبرميل البترول ، ودعمتها علاقات جيدة مع “المملكة السعودية ” وغيرها فى منظمة “أوبك” وفى “أوبك بلس” ، وبأسطول بحرى ضخم بديل من سفنها التجارية الخاصة ، وصار الكل حتى فى الغرب الأوروبى ، يشترون الغاز والبترول الروسى ، عبر وسطاء ومستفيدين محظوظين ، فوق استمرار أمريكا والغرب فى الاستيراد النشط للوقود النووى الروسى ، واستثناء اليابان لنفسها من حظر الغاز الروسى وتسقيف الأسعار، وربما تسعى روسيا لتكرار تجربة النجاح ذاتها فى مجالات تصدير القمح والحبوب والأسمدة ، وبوسائل متداخلة ، تركت فيها الباب مواربا لإمكانية العودة إلى اتفاق الحبوب ، وبشروط إلغاء كافة العقوبات الغربية المتصلة بالمجال الحساس ، بينها إعادة ربط “البنك الزراعى الروسى” وبنوك أخرى بنظام الدفع “سويفت” المتحكم به غربيا ، ورفع الحظر على الآلات والماكينات الزراعية ، والتأمين المالى والفنى لسفن الحبوب والأسمدة الخارجة من روسيا ، وبدت هذه الشروط وغيرها ، كأنها دعوة لإذعان الغرب لإرادة موسكو ، والتفكيك التدريجى للعقوبات الغربية بأكملها ، أو كأنها هجوم روسى مضاد على جبهة الاقتصاد ، وعلى جبهة الأمن الغذائى العالمى بالذات ، دعمته موسكو بإجراءات عسكرية خشنة فى “البحر الأسود” ، بدعوى أن سفن الحبوب الداخلة إلى أو الخارجة من موانئ أوكرانيا ، يحمل بعضها أسلحة وقذائف وزوارق مسيرة ذاهبة إلى أو قادمة من أوكرانيا ، مع رفع درجة تأهب سفن ومدمرات الأسطول الروسى الحربى ، وتهديدها بتوقيف أو بإغراق أى سفينة تجارية تخالف الحظر الروسى ، وهو ما ردت عليه أوكرانيا بالمثل قولا ، ولكن من دون مقدرة أوكرانية على فعل المثل الروسى ، ومن دون استعداد تركيا وسيط الاتفاق وعضو “الناتو” لمساعدة كييف ، فقد أعلنت “أنقرة” بوضوح ، أنه لا استئناف لاتفاق الحبوب من دون روسيا ، ولا من دون تنفيذ الشروط الروسية الواردة أصلا فى نص الاتفاق المصادق عليه من “الأمم المتحدة” ، وهو ما يضع أمريكا و”الناتو” والغرب كله فى الزاوية الحرجة ، فقد لا يمكنهم القبول علنا وعاجلا بشروط موسكو ، والا عد ذلك هزيمة جديدة للغرب أمام روسيا ، وليس بوسعه أيضا ، أن يناصر حليفه وتابعه الأوكرانى الرئيس “فولوديمير زيلينسكى” ، ولا أن يتجاوب مع مطالبه الملحة ، بأن ترافق وتحمى سفن “الناتو” الحربية كل سفينة حبوب تجارية تأتى من أوكرانيا ، لأنه لو فعل افتراضا ، فإنه يخالف رغبة واشنطن فى تجنب الصدام المباشر مع الجيش الروسى ، خشية أن يتطور الصدام إلى حرب نووية مفتوحة ، تملك فيها روسيا عناصر التفوق الحاسم فى المخزون النووى وصواريخ يوم القيامة ، خصوصا مع تضاعف حوادث التحرش الروسى بالطائرات والمسيرات الأمريكية ، من “البحر الأسود” حتى سماء سوريا ، ومع توثق عرى ومناورات التحالف العسكرى الروسى الصينى فى المحيط الهادى ، وكلها مما ينذر بمخاطر ماحقة ، تريد إدارة الرئيس الأمريكى “جو بايدن” تحاشيها ، وبالذات مع اقتراب موسم عام الانتخابات الرئاسية ، التى تشير استطلاعات الرأى المبكرة فيه ، إلى تدهور حظوظ “بايدن” وعلو كعب منافسه المحتمل “دونالد ترامب” ، فى الوقت الذى لا يملك فيه الحلفاء الأوربيون فرصة ميسرة لإنقاذ قمح وحبوب أوكرانيا ، ولا لتأمين استخدام مسار “نهر الدانوب” ، بديلا عن الحصار الروسى فى “البحر الأسود” ، خصوصا مع رفض خمس من دول أوروبا الشرقية ، وكلها من أعضاء “الناتو” و”الاتحاد الأوروبى” ، أن تسهل نقل منتجات الحبوب الأوكرانية “الرخيصة” إليها أو عبرأراضيها ، وبسبب منافستها لمنتجاتها الزراعية ، وغضب مزارعيها ونقاباتهم ، وهو ما كان “الاتحاد الأوروبى” قد استجاب له ، وفرض حظرا ساريا على المنتجات الأوكرانية حتى سبتمبر المقبل ، تطالب الدول المعنية المتضررة بتجديده .
والمحصلة ، أن روسيا أفشلت حتى اليوم “الهجوم الغربى” المضاد عسكريا ، وأحبطت رهان “واشنطن” على الجدوى الحربية للأسلحة المتدفقة بلا حساب إلى الميدان ، فوق مساعدات ومنح إعاشة من تبقى من الأوكران ، والتى زادت كلها حتى اليوم من الغرب كله نحو 500 مليار دولار ، وهو ما يعنى استنزافا رهيبا متصلا للأموال ولسمعة السلاح الغربى المحترف ، ومن دون أمل ظاهر فى دفع روسيا إلى تفاوض مريح للغرب ، يحفظ فيه بعض ماء وجهه الغائض ، فيما تبدو موسكو مستعدة للاستطراد فى عملياتها العسكرية المتمهلة الصبورة إلى سنوات طويلة ، وتلتزم اليوم بموقف دفاعى غالبا ، تحافظ فيه على ما ضمته فعلا من الأراضى الأوكرانية ، وربما تضيف إليها باتجاه “ميكولاييف” و”أوديسا” مع انقلاب الموقف الحربى على الجبهات الطويلة ، بعد استنزاف طاقة المقاتلين الأوكرانيين والفيالق الأجنبية ، وبهدف تحويل أوكرانيا إلى “أفغانستان جديدة” للغرب كله ، ولواشنطن بالذات ، وعلى قصد أن ينتهى مصير “زيلينسكى” ، إلى ما انتهى إليه الرئيس الأفغانى الأخير الهارب “أشرف غنى” ، وأن تكتفى واشنطن من الغنيمة بالإياب المخزى ، ومن جانبها ، تعاند الإدارة الأمريكية طبعا ، وعلى أمل هزيمة الرئيس “فلاديمير بوتين” وتفكيك روسيا ، وهو الرهان الذى خاب مع ما أسمى “تمرد فاجنر” ، ثم قذف “بوتين” لكرة “فاجنر” الملتهبة إلى حدود بولندا “الأطلنطية” عبر بيلاروسيا ، وإعلان المخابرات الأمريكية والمخابرات البريطانية عن الحاجة إلى تجنيد آلاف الجواسيس من داخل روسيا ، وتدبير انقلاب ضد “بوتين” ، الذى يبدو فى كامل قوته الشعبية وتألقه الذهنى ، ويواصل ألعاب “الشطرنج” مع عواصم الغرب ، ويحظى بدعم أكبر من “الصين” الزاحفة إلى عرش العالم الجديد ، ومن تحالفات العالم الجديد الاقتصادية ، لمنظمة “بريكس” وجماعة “شنجهاى” وغيرها ، وحتى من الدول الأفريقية المتضرر الأكبر من أزمة الغذاء العالمى وغلاء أسعار القمح ، وقد ذهبت هذه الدول إلى “بوتين” فى “القمة الروسية ـ الأفريقية” ، وفى منتدى “سان بطرسبرج” الاقتصادى ، الذى يتخذه “بوتين” كمنصة لكسب تعاطف وتأييد شعوب الجنوب العالمى بعامة ، ويعرض استعداد روسيا وحدها لحل كافة مشاكل وأزمات الغذاء العالمية ، وتصدير منتجاتها الهائلة من القمح والحبوب والأسمدة بأسعار تفضيلية مخفضة لأصدقاء روسيا ، أو حتى منح القمح مجانا للمحتاجين غير القادرين على الدفع ، وهكذا يستنزف “بوتين” ، وينسف ادعاءات الغرب ، التى تتهم روسيا بأنها وراء أزمة الجوع فى العالم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.