“أمريكا فى الوقت الضائع”بقلم عبد الحليم قنديل

0 304

قضى الأمر ، ولم يعد ممكنا لأمريكا أن تستعيد نفوذها الكونى الذى كان ، حتى لو لجأت إلى شراء وقت “بدل ضائع” ، فى المباراة العالمية الراهنة ، أو ما يسمى اختصارا عند مجانين كرة القدم بالوقت الضائع ، فما حسمته الأقدار وتوازنات القوة فى المباراة الأصلية ، لن تغير نتائجه ألعاب الخشونة والفظاظة فى الوقت الإضافى ، فقد مضى زمن الانفراد الأمريكى بشئون الدنيا ، وتدحرجت أمريكا إلى غابة الظلال ، وتحولت إلى مجرد “قوة عظمى” بين آخرين ، تنعى أيام مجدها الكونى الغالب ، ولم تعد ولن تعود تلك “القوة العظمى” بألف ولام التعريف والحصر .
وقد لا يصح لأحد ، أن ينكر ما تبقى لأمريكا من عناصر قوة امبراطورية ، لعل أهمها فوائض ما تملكه من قوة سلاح ، وإن كانت تنزل بإطراد عن عرش الاقتصاد العالمى ، وتتضخم ديونها المقدرة اليوم بأكثر من 26 تريليون دولار ، أى بما يفوق ناتجها القومى الإجمالى ، الذى يتعرض نحو خمسه للقضم هذا العام مع مضاعفات جائحة كورونا ، التى تحولت أمريكا إلى صيدها الأسهل ، وصار لها وحدها أكثر من ثلث إجمالى ضحايا الفيروس الجامح ، فيما تستقبل أمريكا مواعيد انتخاباتها الرئاسية الوشيكة فى اختيار بائس بين رجلين ، يقترب كلاهما من عمر الثمانين سنة ، فى إشارة رمزية بليغة على شيخوخة أمريكا ، وعجزها البادى عن تجديد الدور والمكانة ، ووسط هلع مثير للشفقة تبديه دوائرها السياسية والأمنية ، التى تتخوف من تأثير الآخرين على مصير الانتخابات ، من نوع ما يسميه الأمريكيون بتدخل الصين وروسيا ، وحتى تدخل كوبا وفنزويلا وإيران وكوريا الشمالية ، وكأن أمريكا صارت فى وضع الضحية والفريسة المفضلة المستضعفة ، وهى التى كانت تتهم زمن مجدها وسطوتها ، بأنها تصنع للآخرين نظمهم السياسية والاقتصادية وأحلام ليلهم ونهارهم .
وقد لا يكون من فارق جدى ملموس بين أن يفوز جوبايدن ، أو أن يأخذ دونالد ترامب فترته الرئاسية الثانية ، فكلاهما تعبير عن البؤس والضعف الذى ألم بأمريكا ، بؤس داخلى فى الانقسامات المجتمعية وضياع البوصلة وتوارى الأحلام ، وضعف دولى ظاهر ، جرى استطراده وتسريعه بحماقات وفظاظات ترامب ، الذى لم يترك لأمريكا حليفا موثوقا ، إلا من نوع “إسرائيل” وأغواتها من الحكام العرب ، فى حين راحت دول أوروبا الكبرى بعيدا عن واشنطن ، تبحث لها عن موضع قدم آخر فى توازنات الدنيا المتغيرة ، وعلى نحو ما جرى ويجرى فى “حرب إيران” داخل أروقة الأمم المتحدة ، فقد جربت أمريكا كل صنوف الخشونة والضغوط القصوى ، وبدا لواشنطن أن ساعة القطاف حانت ، وأن بوسعها جعل العالم يسير فى ركابها للنهاية ضد إيران ، وظل “مايك بومبيو” وزير خارجية ترامب ، الذى يتكلم كراعى بقر ، ويتصرف بروح “المسيحية الصهيونية” المتطرفة ، وقد ظل الرجل شهورا يواصل مكوكياته ، ويدعو إلى مد حظر تصدير السلاح لإيران أو منها ، المقررة نهايته دوليا فى أكتوبر المقبل ، ويشدد حملته ضد طهران التى أسماها رأس الإرهاب الدولى ، وبعد كل هذه التعبئة المستميتة ، كانت هزيمة واشنطن فادحة كاشفة فى تصويت مجلس الأمن الدولى ، ولم يصوت لقرار واشنطن سوى واشنطن نفسها ، ومعها دولة صغيرة كرأس دبوس على نصف جزيرة فى بحر “الكاريبى” ، اسمها جمهورية “الدومينكان” ، فى حين عارضت وامتنعت 13 دولة من مجموع 15 دولة فى مجلس الأمن ، وبين الممتنعين كانت بريطانيا وفرنسا وألمانيا ، ولعبت الصين وروسيا دور رأس الحربة المغروزة فى بدن الهيبة الأمريكية المتزايلة ، ولم يجد بومبيو ـ ولا رئيسه ترامب ـ من تعليق ، سوى الصراخ الملتاث ، وتكرار محاولة بدت أكثر بؤسا ، تدعى أنه لا بد من معاقبة إيران على خرقها للاتفاق النووى ، الذى خرجت منه أمريكا أصلا قبل سنوات ، ولا يحق لها بالبداهة استخدام نصوصه ، لإعادة فرض العقوبات الدولية على إيران ، وهو ما نبهت له ألمانيا وفرنسا وبريطانيا ، وسخرت من الطلب الأمريكى الشاذ قانونا ، ووجدت نفسها فى ذات مواقف الصين وروسيا ، وكأنه موسم التنكيل الدولى بأمريكا ، فليست القصة فى إيران بذاتها ، إنما فى معنى التحولات الدولية الجارية بمناسبة “حرب إيران” ، والانقلابات الدرامية فى حلبة المصارعة السياسية ، وقبل حرب إيران كانت حرب سوريا ، التى كشفت حقائق عودة الدور الروسى العسكرى عالميا ، وإزاحته لمناطق نفوذ أمريكية فى دراما الشرق الأوسط الدموية ، وهو ما واصلته روسيا بضراوة فى مداولات مجلس الأمن ، مستعينة بصداقة الصين قوة العالم الاقتصادية العظمى بمعايير القوى الشرائية ، وبتحالف الأقوياء الجدد ، هزمت روسيا والصين أمريكا وأوروبا معا فى ثلاثة تصويتات متوالية بمجلس الأمن ، جرت الواقعة المثيرة قبل شهور ، وكان الصدام حول معابر دخول المساعدات الإنسانية الدولية إلى داخل سوريا ، وتقدمت الأطراف الغربية بمشروع قرار دخول المساعدات عبر معابر متعددة ، لا يقع أغلبها تحت سيطرة الحكومة السورية المحمية من روسيا ، ورفضت موسكو ، واستخدمت ومعها الصين “حق الفيتو” لمرتين متتابعتين ، مما اضطر أمريكا والأوربيون إلى النزول عند رغبة روسيا ، وقصر دخول المساعدات الدولية على معبر “باب الهوى” الواقع تحت سيطرة حكومة بشار الأسد ، كان تصويتا مرهقا ، استخدمت فيه روسيا والصين خشونة “الفيتو” ، وليس كالتصويت الأخير بخصوص إيران ، الذى لجأت فيه الصين وروسيا إلى أساليب تعبئة ناعمة نسبيا ، لكن المحصلة ظلت كما هى فى حالتى الخشونة والنعومة ، وظلت الهزيمة الدولية من نصيب واشنطن ، التى تلجأ بإطراد إلى الانسحاب من منظمات الأمم المتحدة ، وعلى نحو ما فعلت فى “اليونسكو” و”مجلس حقوق الإنسان” و”منظمة الصحة العالمية” ، فى حين يتزايد نفوذ الصين فى الوكالات النوعية التابعة للأمم المتحدة ، وتبدى استعدادها لملء فراغ التمويل الأمريكى المنسحب ، وتكسب أرضا دولية جديدة كل يوم ، بإنفاق تريليونات الدولارات على مشاريع “الحزام” و”الطريق” ، وكسب نصيب الأسد (35%) من إجمالى التجارة العالمية ، والرد بقسوة متحدية فى معارك الحرب التجارية التى أشعلتها واشنطن ، التى خسرت بامتياز فى سباق العولمة التجارية والاقتصادية والتكنولوجية ، وتلجأ إلى إجراءات حمائية متصاعدة ، تتصور أنها ستنقذها من الطوفان الصينى ، الذى يزحف مع روسيا إلى عقر دار النفوذ الأمريكى المتقادم فى الشرق الأوسط ، وتزيد كثافة استثماراته حتى فى “إسرائيل” ، ويتضاعف تسليحه مع التسليح الروسى والفرنسى للجيش المصرى أكبر جيوش المنطقة ، إضافة لصفقة الصين العظمى مع إيران على مدى 25 سنة مقبلة ، وفى نصوصها المنشورة انتظارا للتصديق عليها ، تقدم الصين لطهران استثمارات بقيمة 400 مليار دولار ، وتتولى تطوير البنية التحتية والاتصالات والصناعة، وتحصل بأسعار ميسرة على غالب احتياجاتها من موارد البترول والغاز الإيرانية ، وأولوية مطلقة فى توريد السلاح مع روسيا إلى إيران ، كذا امتيازات عسكرية وتجارية فى موانى إيران كلها.
وقد لا يكون صحيحا تماما ، أن ترامب هو الذى صنع سيرة الإخفاق الأمريكى ، صحيح أنه يعجل بالتردى مع سوقيته وفظاظته ، لكنه ـ أى ترامب ـ مجرد عرض لمرض ، أصل المرض فى تضعضع النفوذ الأمريكى دوليا ، بعد مرور فترة عابرة فى تاريخ النظام الدولى ، تلت سقوط موسكو الشيوعية وتحلل الاتحاد السوفيتى فى النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين ، وعلى مدى أقل من عقدين لاحقين ، بدا أن العالم يعيش زمن القطبية الأحادية الأمريكية ، كان ذلك أشبه بخداع بصر موقوت ، فحقائق القوة كانت تواصل تشكلها ونضجها ، وكانت تأخذ من نصيب أمريكا الأحادى ، وتنتظر حوادث الإفصاح عن نشوء وضع دولى متعدد الأقطاب العسكرية والاقتصادية ، وعلى نحو ما بدا ويبدو فى “حرب سوريا” و”حرب إيران” وحروب التجارة والتكنولوجيا والأمم المتحدة ، وهو ما بدا أن القوة الأمريكية تستشعره غريزيا ، باستجابة عصر باراك أوباما ، التى مالت إلى التسليم بتواضع أحوال أمريكا ، حتى فى طقس انتخابه كأول “ملون” يصل إلى البيت الأبيض ، وفى قراراته كرئيس بالانسحاب المتدرج من حروب الشرق الأوسط ، والانتقال للتركيز على جوار الصين والمحيط الهادئ ، وعلاج أعطاب الاقتصاد المأزوم فى الداخل ، وهو ما واصله ترامب بطريقته ، ومن دون نجاح كبير ، فقد عاد الاقتصاد إلى عطب مضاعف مع جائحة كورونا ، وتزايد تأثير الصين وروسيا فى السياسة الدولية ، مع ثبات عقم سياسة الإفراط فى العقوبات ضد الآخرين ، واتساع رقعة التمرد على النفوذ الأمريكى ، ولو حدث أن فاز بايدن بالرئاسة المقبلة ، فلن تكون سياسته سوى نسخة باهتة من اختيارات أوباما ، ومن دون مقدرة أكيدة على تبديل جوهرى للمصائر ، فما مضى لا يعود ، وقوة أمريكا المنفردة كونيا صارت فى ذمة التاريخ المنقضى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.