“أمريكا فى الوقت الضائع”بقلم عبد الحليم قنديل

0 337

قضى الأمر ، ولم يعد ممكنا لأمريكا أن تستعيد نفوذها الكونى الذى كان ، حتى لو لجأت إلى شراء وقت “بدل ضائع” ، فى المباراة العالمية الراهنة ، أو ما يسمى اختصارا عند مجانين كرة القدم بالوقت الضائع ، فما حسمته الأقدار وتوازنات القوة فى المباراة الأصلية ، لن تغير نتائجه ألعاب الخشونة والفظاظة فى الوقت الإضافى ، فقد مضى زمن الانفراد الأمريكى بشئون الدنيا ، وتدحرجت أمريكا إلى غابة الظلال ، وتحولت إلى مجرد “قوة عظمى” بين آخرين ، تنعى أيام مجدها الكونى الغالب ، ولم تعد ولن تعود تلك “القوة العظمى” بألف ولام التعريف والحصر .
وقد لا يصح لأحد ، أن ينكر ما تبقى لأمريكا من عناصر قوة امبراطورية ، لعل أهمها فوائض ما تملكه من قوة سلاح ، وإن كانت تنزل بإطراد عن عرش الاقتصاد العالمى ، وتتضخم ديونها المقدرة اليوم بأكثر من 26 تريليون دولار ، أى بما يفوق ناتجها القومى الإجمالى ، الذى يتعرض نحو خمسه للقضم هذا العام مع مضاعفات جائحة كورونا ، التى تحولت أمريكا إلى صيدها الأسهل ، وصار لها وحدها أكثر من ثلث إجمالى ضحايا الفيروس الجامح ، فيما تستقبل أمريكا مواعيد انتخاباتها الرئاسية الوشيكة فى اختيار بائس بين رجلين ، يقترب كلاهما من عمر الثمانين سنة ، فى إشارة رمزية بليغة على شيخوخة أمريكا ، وعجزها البادى عن تجديد الدور والمكانة ، ووسط هلع مثير للشفقة تبديه دوائرها السياسية والأمنية ، التى تتخوف من تأثير الآخرين على مصير الانتخابات ، من نوع ما يسميه الأمريكيون بتدخل الصين وروسيا ، وحتى تدخل كوبا وفنزويلا وإيران وكوريا الشمالية ، وكأن أمريكا صارت فى وضع الضحية والفريسة المفضلة المستضعفة ، وهى التى كانت تتهم زمن مجدها وسطوتها ، بأنها تصنع للآخرين نظمهم السياسية والاقتصادية وأحلام ليلهم ونهارهم .
وقد لا يكون من فارق جدى ملموس بين أن يفوز جوبايدن ، أو أن يأخذ دونالد ترامب فترته الرئاسية الثانية ، فكلاهما تعبير عن البؤس والضعف الذى ألم بأمريكا ، بؤس داخلى فى الانقسامات المجتمعية وضياع البوصلة وتوارى الأحلام ، وضعف دولى ظاهر ، جرى استطراده وتسريعه بحماقات وفظاظات ترامب ، الذى لم يترك لأمريكا حليفا موثوقا ، إلا من نوع “إسرائيل” وأغواتها من الحكام العرب ، فى حين راحت دول أوروبا الكبرى بعيدا عن واشنطن ، تبحث لها عن موضع قدم آخر فى توازنات الدنيا المتغيرة ، وعلى نحو ما جرى ويجرى فى “حرب إيران” داخل أروقة الأمم المتحدة ، فقد جربت أمريكا كل صنوف الخشونة والضغوط القصوى ، وبدا لواشنطن أن ساعة القطاف حانت ، وأن بوسعها جعل العالم يسير فى ركابها للنهاية ضد إيران ، وظل “مايك بومبيو” وزير خارجية ترامب ، الذى يتكلم كراعى بقر ، ويتصرف بروح “المسيحية الصهيونية” المتطرفة ، وقد ظل الرجل شهورا يواصل مكوكياته ، ويدعو إلى مد حظر تصدير السلاح لإيران أو منها ، المقررة نهايته دوليا فى أكتوبر المقبل ، ويشدد حملته ضد طهران التى أسماها رأس الإرهاب الدولى ، وبعد كل هذه التعبئة المستميتة ، كانت هزيمة واشنطن فادحة كاشفة فى تصويت مجلس الأمن الدولى ، ولم يصوت لقرار واشنطن سوى واشنطن نفسها ، ومعها دولة صغيرة كرأس دبوس على نصف جزيرة فى بحر “الكاريبى” ، اسمها جمهورية “الدومينكان” ، فى حين عارضت وامتنعت 13 دولة من مجموع 15 دولة فى مجلس الأمن ، وبين الممتنعين كانت بريطانيا وفرنسا وألمانيا ، ولعبت الصين وروسيا دور رأس الحربة المغروزة فى بدن الهيبة الأمريكية المتزايلة ، ولم يجد بومبيو ـ ولا رئيسه ترامب ـ من تعليق ، سوى الصراخ الملتاث ، وتكرار محاولة بدت أكثر بؤسا ، تدعى أنه لا بد من معاقبة إيران على خرقها للاتفاق النووى ، الذى خرجت منه أمريكا أصلا قبل سنوات ، ولا يحق لها بالبداهة استخدام نصوصه ، لإعادة فرض العقوبات الدولية على إيران ، وهو ما نبهت له ألمانيا وفرنسا وبريطانيا ، وسخرت من الطلب الأمريكى الشاذ قانونا ، ووجدت نفسها فى ذات مواقف الصين وروسيا ، وكأنه موسم التنكيل الدولى بأمريكا ، فليست القصة فى إيران بذاتها ، إنما فى معنى التحولات الدولية الجارية بمناسبة “حرب إيران” ، والانقلابات الدرامية فى حلبة المصارعة السياسية ، وقبل حرب إيران كانت حرب سوريا ، التى كشفت حقائق عودة الدور الروسى العسكرى عالميا ، وإزاحته لمناطق نفوذ أمريكية فى دراما الشرق الأوسط الدموية ، وهو ما واصلته روسيا بضراوة فى مداولات مجلس الأمن ، مستعينة بصداقة الصين قوة العالم الاقتصادية العظمى بمعايير القوى الشرائية ، وبتحالف الأقوياء الجدد ، هزمت روسيا والصين أمريكا وأوروبا معا فى ثلاثة تصويتات متوالية بمجلس الأمن ، جرت الواقعة المثيرة قبل شهور ، وكان الصدام حول معابر دخول المساعدات الإنسانية الدولية إلى داخل سوريا ، وتقدمت الأطراف الغربية بمشروع قرار دخول المساعدات عبر معابر متعددة ، لا يقع أغلبها تحت سيطرة الحكومة السورية المحمية من روسيا ، ورفضت موسكو ، واستخدمت ومعها الصين “حق الفيتو” لمرتين متتابعتين ، مما اضطر أمريكا والأوربيون إلى النزول عند رغبة روسيا ، وقصر دخول المساعدات الدولية على معبر “باب الهوى” الواقع تحت سيطرة حكومة بشار الأسد ، كان تصويتا مرهقا ، استخدمت فيه روسيا والصين خشونة “الفيتو” ، وليس كالتصويت الأخير بخصوص إيران ، الذى لجأت فيه الصين وروسيا إلى أساليب تعبئة ناعمة نسبيا ، لكن المحصلة ظلت كما هى فى حالتى الخشونة والنعومة ، وظلت الهزيمة الدولية من نصيب واشنطن ، التى تلجأ بإطراد إلى الانسحاب من منظمات الأمم المتحدة ، وعلى نحو ما فعلت فى “اليونسكو” و”مجلس حقوق الإنسان” و”منظمة الصحة العالمية” ، فى حين يتزايد نفوذ الصين فى الوكالات النوعية التابعة للأمم المتحدة ، وتبدى استعدادها لملء فراغ التمويل الأمريكى المنسحب ، وتكسب أرضا دولية جديدة كل يوم ، بإنفاق تريليونات الدولارات على مشاريع “الحزام” و”الطريق” ، وكسب نصيب الأسد (35%) من إجمالى التجارة العالمية ، والرد بقسوة متحدية فى معارك الحرب التجارية التى أشعلتها واشنطن ، التى خسرت بامتياز فى سباق العولمة التجارية والاقتصادية والتكنولوجية ، وتلجأ إلى إجراءات حمائية متصاعدة ، تتصور أنها ستنقذها من الطوفان الصينى ، الذى يزحف مع روسيا إلى عقر دار النفوذ الأمريكى المتقادم فى الشرق الأوسط ، وتزيد كثافة استثماراته حتى فى “إسرائيل” ، ويتضاعف تسليحه مع التسليح الروسى والفرنسى للجيش المصرى أكبر جيوش المنطقة ، إضافة لصفقة الصين العظمى مع إيران على مدى 25 سنة مقبلة ، وفى نصوصها المنشورة انتظارا للتصديق عليها ، تقدم الصين لطهران استثمارات بقيمة 400 مليار دولار ، وتتولى تطوير البنية التحتية والاتصالات والصناعة، وتحصل بأسعار ميسرة على غالب احتياجاتها من موارد البترول والغاز الإيرانية ، وأولوية مطلقة فى توريد السلاح مع روسيا إلى إيران ، كذا امتيازات عسكرية وتجارية فى موانى إيران كلها.
وقد لا يكون صحيحا تماما ، أن ترامب هو الذى صنع سيرة الإخفاق الأمريكى ، صحيح أنه يعجل بالتردى مع سوقيته وفظاظته ، لكنه ـ أى ترامب ـ مجرد عرض لمرض ، أصل المرض فى تضعضع النفوذ الأمريكى دوليا ، بعد مرور فترة عابرة فى تاريخ النظام الدولى ، تلت سقوط موسكو الشيوعية وتحلل الاتحاد السوفيتى فى النصف الأول من تسعينيات القرن العشرين ، وعلى مدى أقل من عقدين لاحقين ، بدا أن العالم يعيش زمن القطبية الأحادية الأمريكية ، كان ذلك أشبه بخداع بصر موقوت ، فحقائق القوة كانت تواصل تشكلها ونضجها ، وكانت تأخذ من نصيب أمريكا الأحادى ، وتنتظر حوادث الإفصاح عن نشوء وضع دولى متعدد الأقطاب العسكرية والاقتصادية ، وعلى نحو ما بدا ويبدو فى “حرب سوريا” و”حرب إيران” وحروب التجارة والتكنولوجيا والأمم المتحدة ، وهو ما بدا أن القوة الأمريكية تستشعره غريزيا ، باستجابة عصر باراك أوباما ، التى مالت إلى التسليم بتواضع أحوال أمريكا ، حتى فى طقس انتخابه كأول “ملون” يصل إلى البيت الأبيض ، وفى قراراته كرئيس بالانسحاب المتدرج من حروب الشرق الأوسط ، والانتقال للتركيز على جوار الصين والمحيط الهادئ ، وعلاج أعطاب الاقتصاد المأزوم فى الداخل ، وهو ما واصله ترامب بطريقته ، ومن دون نجاح كبير ، فقد عاد الاقتصاد إلى عطب مضاعف مع جائحة كورونا ، وتزايد تأثير الصين وروسيا فى السياسة الدولية ، مع ثبات عقم سياسة الإفراط فى العقوبات ضد الآخرين ، واتساع رقعة التمرد على النفوذ الأمريكى ، ولو حدث أن فاز بايدن بالرئاسة المقبلة ، فلن تكون سياسته سوى نسخة باهتة من اختيارات أوباما ، ومن دون مقدرة أكيدة على تبديل جوهرى للمصائر ، فما مضى لا يعود ، وقوة أمريكا المنفردة كونيا صارت فى ذمة التاريخ المنقضى.

اترك رد