“أمريكا هى الطاعون” عبد الحليم قنديل

0 233

فى إستهلالها البديع لكتاب
” لكل المقهورين فى الأرض أجنحة “، تتذكر الروائية المصرية الراحلة رضوى عاشور حكاية من التراث الشعبى الأفريقى الأمريكى، عنوان الحكاية الشفهية “لكل أبناء الرب أجنحة”، وتروى عن سالف الأيام، حين كان لكل الأفارقة أجنحة، وكانوا يستطيعون التحليق كالطيور، وكانت إمرأة أمريكية من أصل أفريقى فى أسر الاستعباد، تعمل فى مزرعة السيد الأبيض، ولم تكن قد تعافت بعد من آلام الوضع، وكان صغيرها يصرخ، فترفعه إليها لترضعه، ويراها سائق العبيد، ويضربها لترك العمل، فتسقط على الأرض من شدة الوهن، وتتعرض للضرب من جديد، وإلى أن كادت عيناها تغيم من القهر، فتتطلع إلى شيخ أفريقى مستعبد مثلها، تسأله “هل حان الوقت يا والدى ؟”، يجيبها الشيخ “حان الوقت يا ابنتى” ، فإذا بالمرأة تطير، وقد نبتت لها أجنحة، وتتكرر الحكاية نفسها مع آخرين، يسألون الشيخ ويُجيبهم، وبلغة لا يفهمها سادة المزرعة، فإذا بكل العبيد يطيرون، الرجال يُصفقون، والنساء يُغنين، والأطفال يَضحكون، وقد أصبحوا أحراراً فى سماء الله، حتى الشيخ نفسه يطير، بعد أن إتجه إليه صاحب المزرعة لقتله، فقد أنجته الذاكرة الخيالية الجماعية، والحلم الكامن بالتحرر الذاتى من العبودية .
نفس الحلم الذى راوغ “جورج فلويد” فى دقائق حياته الأخيرة، وهو ملقى ببطنه على الأرض، والشرطى الأمريكى الأبيض “ديريك شوفين” يضغط بركبته الثقيلة على رقبته، والأسود “فلويد” يختنق تدريجياً طوال ما يقرب من تسع دقائق، وصوته المتحشرج يتوسل عطف الشرطى، وينبهه “لا أستطيع التنفس”، ويرجوه “لا تقتلنى”، بينما الأبيض المتعجرف يتمنطق مسدسه، ويضع يده فى جيب بنطاله مزهواً، وكأنما يؤدى عرضاً سينمائياً هوليوودياً، ويمنع معاونوه المارة من الاقتراب، ويغيب صوت “فلويد”، بعد أن يهمس بكلمته الأخيرة “يا أمى”، فقد كان ذاهباً إلى أمه فى السماء، يطيرُ، كما طار إلينا فيديو موته القاسى، بعد أن أرهقته الأرض ظلماً، وفى بلد يصف نفسه بأم الحريات وأرض الأحلام السعيدة (!) .
نعم، فالقصة ليست مجرد تفرقة عنصرية، لن يعدم أحد وجودها فى أى بلد على خرائط الدنيا اليوم، وبأسباب اختلافات اللون أو الجنس أو الدين أو الطائفة، وعندنا وعند غيرنا منه، ما هو أكثر من الهم الرازح فوق القلب، لكن القصة العنصرية فى أمريكا مختلفة، فهى ملازمة لهذه “الأمريكا” منذ وجدت، فقد قامت فى الأصل على إفناء مئات الملايين من “الهنود الحمر” سكان الأرض الأصليين، ومن وراء لافتات دينية، زورت صورة السيد المسيح، وجعلته عنوانا للعنف والقتل الهمجى، وبإدعاء التحضر ورسالة “الرجل الأبيض”، ذهبت حملات إصطياد العبيد من أفريقيا البعيدة، وحشرهم فى سفن عبر المحيط الأطلنطى، وحين كسبت أمريكا إستقلالها ودستورها، لم يفتح الرؤساء الأمريكيون الأوائل ملف إسترقاق السود، وإلى أن جاء الرئيس السادس عشر “إبراهام لينكولن”، وأعطوه لقب “محرر العبيد”، ثم إغتالوه عام 1865، وكان أول رئيس أمريكى يلقى مصير الموت غيلة، بينما مات المؤسس والرئيس الأول جورج واشنطن على فراشه الوثير عام 1799، بعد أن لم يجرؤ على معارضة قرار الكونجرس القاضى بحرية استملاك العبيد .
إنها أمريكا التى “هى الطاعون” بوصف”محمود درويش”، قتلت وتقتل عشرات ملايين البشر خارج حدودها، وقتلت وتقتل الملايين داخلها، ومن وراء أقنعة وأصباغ ثقيلة، صورتها كبلد أحلام، بينما لا تحمى سوى مزارع القتل، وقد دمروا حضارات الهنود الحمر فى حملات همجية غير مسبوقة ولا ملحوقة، ودون أن تنزل عليهم دمعة، إلا على سبيل تذكر مآثر القتلة الرواد الأوائل، فيما إستعصى الأمريكيون الأفارقة على الفناء بالقتل على كثرته، وظلوا على مدى نحو ثلاثة قرون، هدفاً لإضطهاد وحشى، إختلفت صورته، لكن لم تخف وطأته، فهو عنف ممنهج لصيق ببنية النظام الأمريكى، حتى فى زمن باراك أوباما، الذى كان أول أمريكى من أصل أفريقى يصل إلى سدة الرئاسة، لم تمنع رئاسته قتل السود بالمجان ، وعلى يد الشرطة الأمريكية كالعادة ، وعلى نحو ما جرى للأمريكى من أصل أفريقى “مايكل براون” عام 2012 ، الذى قتل بطريقة مشابهة لمقتلة “جورج فلويد” أخيرا ، وكان تعليق أوباما على مقتل “فلويد” كاشفا ، إذ قال ما خلاصته: لقد فشل الرؤساء جميعا فى وقف القتل العنصرى ، فما بالك بدونالد ترامب الملياردير اليمينى العنصرى ، الذى يؤمن بتفوق البيض ، ويعتبر العنصريين شعبه وقاعدته الانتخابية الصلبة ، ويهدد المتظاهرين بالقتل ، ونهش الكلاب الشرسة ، ويباهى بقواته فى الشرطة وجهاز الخدمة السرية والحرس الوطنى التابع للجيش ، وينعى على بعض المتظاهرين عنف غضبهم ، ويصور حركة “أنتيفا” كمنظمة إرهابية ، وهى جماعة محدودة مضادة للفاشية ، لا يصدق عاقل أن المظاهرات الضخمة من صنعها ، ولا أنها أشعلت غضب الناس فى مئة مدينة أمريكية ، وفى صورة جارفة مدفوعة بألم إنسانى طافح ، قد تكون تخللتها أعمال سرقة وانفلات وتحطيم ، ربما لأنها لم تجد أحدا فى السلطة الأمريكية يؤازر غضبها ، ويهدئ النفوس ، ويتعهد بالقصاص للمخنوق علنا “جورج فلويد” ، لا لذنب معلوم أو معتبر ، سوى التعامل بورقة مالية مزورة من فئة العشرين دولار كما يزعمون، بينما يجد القاتل الهمجى من يدافع عنه، وقد يجعله بطلا على طريقة عصابات “الكلوكلوكس كلان”، التى تعتبر قتل السود مهمة ربانية، وقد قيل أن هذه العصابات اختفت ، وإن ظلت عقيدتها راكزة فى جهاز الشرطة وأجهزة الأمن الأمريكية ، وبدلا من التعهد باقتلاع العنصرية القاتلة ، وتغليظ العقوبات على جرائمها ، وتحقيق العدالة كشرط لسلام المجتمع ، لجأ الرئيس الأمريكى ترامب إلى التهديد بقتل المتظاهرين بالجملة ، واستدعاء قوات الجيش الأمريكى برغم معارضات البنتاجون ، بعد إطلاق النار على المتظاهرين ، وبعد اعتقال الآلاف ، وترويع الصحفيين بالرصاص المطاطى ، ودهس الناس بالشاحنات ، وفرض حظر التجول ، وبأسلوب التزييف نفسه ، الذى اعتاده صناع أمريكا الأوائل ، وقف ترامب أمام كنيسة “سانت جورج” القريبة من البيت الأبيض ، ورفع نسخة من “الإنجيل” بيده اليمنى فى حركة استعراضية ، وبدا كجنرال أحمق ، وهو يزهو بقواته الكفيلة بفرض الأمن ودحر الغاضبين .
وكثيرا ما حاول السود تحدى قوة النظام العنصرى ، أو الانسلاخ عنه باستنفار القوة السوداء ، وعلى نحو ما فعلت جماعة “أمة الإسلام” التى يقودها اليوم “لويس فاراخان” ، وكان أسسها “إليجا محمد” ، الذى استراح لنوع من الإسلام الخلاصى المهدوى ، ومواجهة العنف العنصرى الأبيض بالعنف الأسود ، وهو ما طوره تابعه “مالكولم إكس” ، الذى رفع شعار أفضلية السود على البيض ، ونادى بإقامة كيان مستقل للسود فى أمريكا ، قبل أن يراجع أفكاره مع الحج إلى مكة المكرمة ، واعتناقه للإسلام السنى ، وميله إلى التجاوب أكثر مع خطة مارتن لوثر كينج الإبن ، وقد اغتيل “مالكولم إكس” بظروف غامضة عام 1965 ، فى حين تأخر موعد اغتيال مارتن لوثر كينج الإبن إلى عام 1968 ، كان مارتن قسا مسيحيا بروتستانيا ، وأغلب السود فى أمريكا يعتنقون المسيحية ، وكانت طريقته سلمية تماما ، استوحت سيرة المهاتما غاندى الهندية ، وقاد مارتن حملات مقاطعة ومسيرات كبرى من أجل اكتساب الحقوق المدنية للسود ، وحصل فى الخامسة والثلاثين من عمره على جائزة “نوبل” للسلام عام 1964 ، وقاد مظاهرات كبرى شارك فى إحداها مائتان وخمسون ألفا ، وبرغم سلميته الفائقة ، لم يسلم مارتن من الأذى الدائم ، وأحرقوا بيته مرات ، وكان خطابه الشهير “عندى حلم” ، هو السبب الأظهر لاغتياله على يد مجرم أبيض هارب من سجنه ، مع أن مارتن كان يحلم فقط بأن يتساوى أبناء العبيد مع أبناء السادة القدامى ، وأن يجلسوا معا فى سلام، وقد حققت حركة الحقوق المدنية عددا من الإنجازات، وأصدر الرئيس الأمريكى “ليندون جونسون” لوائح مساواة مدنية عام 1968، سمحت للسود بتأكيد حقوق التصويت والترشح والتعليم ، لكنها لم تقتلع العنصرية الكامنة فى بنية النظام الأمريكى، فقد ظهر من السود نجوم لامعة فى الحياة الأمريكية، لكن غالبيتهم الساحقة ظلت على بؤسها وفقرها، فالأمريكيون من أصل أفريقى يشكلون نسبة 13% من إجمالى السكان، لكن نسبتهم تصل إلى 40% من نزلاء السجون، وإلى 30% من ضحايا جائحة كورونا، التى لم يفلح ترامب فى مواجهتها، ولا فى لجم ميوله الطبقية والعنصرية القاتلة، وقد يذهب ضحيتها .

اترك رد