بقلم دكتور
عبدالحليم قنديل
هل صحيح أن المنطقة مقبلة فعلا على زمن سياسى جديد ، توقف فيه الحرب على “غزة” بعد وقف الحرب على إيران، وينزع فيه سلاح فصائل المقاومة، ويجرى نفى قادة كتائبها المسلحة ، وترسم فيه خرائط تطبيع مع دول عربية مضافة، وتذهب قوات عربية إلى مهمة قذرة فى “غزة”، تحل محل قوات الاحتلال “الإسرائيلى” ، أو تشارك معها فى ما يسمونه تأمين “غزة” وحراسة أمن كيان الاحتلال ؟ .
الجواب المختصر عندنا ، أنه لا شئ من ذلك وارد الحدوث، وإن حصل بعضه، فلن يكون قابلا لاستمرار ولا لدوام، والأسباب ظاهرة، أهمها أن العدو الأمريكى “الإسرائيلى” الذى يخطط للمشهد المهين، لم يحقق نصرا حاسما على الجبهات كلها، رغم استغراق الرئيس الأمريكى السيكوباتى “دونالد ترامب” فى خيالات مصنوعة ، يجاريه فيها مجرم حرب الإبادة “بنيامين نتنياهو”، ويلتقيان فى البيت الأبيض، ربما لإقامة احتفال كما يقولون بالنصر المزعوم على إيران فى حرب الإثنى عشر يوما، ولتصنيع سلام موهوم، يستثمر النجاح الذى تحقق على جبهة إيران كما قال “نتنياهو”، ويمد شبكة اتفاقات “أبراهام” إلى سوريا ولبنان أولا، وبدعوى أن “إسرائيل” قد تنفتح على مشاغل الفلسطينيين، وبما يلاغى ويلاقى مطالب العرب المعلنة بإقامة دولة فلسطينية، وهو ما ينطوى على خداع كاذب مكشوف، تماما كالوعد بإجراء تفاوض على وقف نهائى لحرب الإبادة فى “غزة” خلال هدنة الستين يوما المطروحة اليوم، والتى قد تقبلها فصائل المقاومة فى “غزة”، لكن تبقى المعضلة الأهم فى الاتفاق النهائى، فلن تقبل “حماس” وأخواتها نزع سلاحها ولا نفى قادتها، وإن قبلت لا سمح الله، فسوف تكون قد فقدت صفتها كمقاومة، ومن دون أن تكون دفنت مبدأ المقاومة، وهو حق وواجب بديهى لأى شعب تحت الاحتلال، لا يتوقف سريانه مع غياب فصيل أو آخر عن الساحة، و”إسرائيل” لا تنوى أصلا الخروج من “غزة” باتفاق، ولا الانسحاب الكامل منها إلى خطوط 7 أكتوبر 2023، وأقصى ما يمكن أن تقبله “حماس” وأخواتها فى صورة اليوم التالى للحرب، أن تترك حكم “غزة” لحكومة أو لجنة من التكنوقراط الفلسطينيين المستقلين، وهى فكرة سبق أن طرحها الطرف المصرى على “فتح” و”حماس” والفصائل الأخرى، لكن قبول مبدأ نزع السلاح يبدو مستحيلا، حتى وإن أبدت “حماس” وأخواتها استعدادا لتقبل هدنة طويلة الأمد، وعلى أن يكون المقابل جلاء “إسرائيليا” تاما عن أراضى قطاع “غزة”، وبدء خطة إعادة إعمار “غزة” مع بقاء أهلها فيها، وعلى نحو ما صاغته الخطة المصرية التى صارت عربية وإسلامية عامة، مع رفض أى خطط لتهجير الفلسطينيين من “غزة” .
والمعنى ببساطة، أن خطط “ترامب” و”نتنياهو”، لا تبدو قابلة للتحقق التلقائى، فلم تحقق أمريكا ولا “إسرائيل” نصرا نهائيا بأى معنى، ومن ثم فلا فرصة لفرض شروط استسلام نهائى، حتى لو كانت أغلبية النظم العربية الحاكمة ـ أو كلها ـ على حالها الذى نعرف من الخضوع والخنوع والتواطؤ الذليل، فلا فرصة لأحد أن يكسب بالتفاوض ما عجز عنه حربا، وهنا تلزم التفرقة بين القتل والقتال، وبين وقائع القتال ونتائجه، فقد خرج “نتنياهو” من جولة قتال إيران منتفشا، وصور لنفسه وكيانه أنه حقق نصرا ساحقا، وكذا فعل صنوه “ترامب”، وتحدث الإثنان عن تدمير ومحو شامل للبرنامج النووى الإيرانى، وهو ما كذبته أغلب تقارير المخابرات الأمريكية والأوروبية، وكذبه حتى “روفائيل جروسى” المدير العام لوكالة الطاقة الذرية الدولية، والكل أجمع على حقيقة وقوع أضرار قد لا تكون كافية لتأخير البرنامج الإيرانى سوى بضعة شهور على الأكثر، بينما بدا الجانب الإيرانى مصرا على استكمال برنامجه النووى المتقدم، ولديه تراكم هائل من المعرفة النووية والعلماء والمهندسين والفنيين النوويين، بل والمقدرة على إنشاء مواقع نووية جديدة محصنة، كما جرى مثلا فى “جبل الفأس” بأصفهان، وبدت إيران عازمة أكثر على حفظ أسرار برنامجها المعقد المتعدد المواقع العلنية والسرية، وقررت طهران تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وحظر دخول مفتشيها، وهو ما قد يوحى باتجاه صانع القرار الإيرانى إلى وجهة جديدة، قد لا تستبعد الذهاب إلى مرحلة صناعة القنابل الذرية بمخزونها المتوافر من اليورانيوم المخصب بنسب عالية، ومع تكشف الحقائق بعد انجلاء غبار القصف “الإسرائيلى” والأمريكى معا، وسعى السلطة الإيرانية إلى قص دابر جيوش الجواسيس فى الداخل، قد تجد واشنطن وتل أبيب أنهما تعودان إلى نقطة الصفر من جديد، وأن الحرب التى فشلت، تحتاج إلى تغطية على عوارها بشن حرب جديدة، تحصن إيران نفسها فيها بنظم دفاع جوى جديدة صينية وروسية، وربما التزود بقاذفات حربية أحدث، وهكذا تتبخر نشوة “إسرائيل” بضربات “قطع رأس” واغتيال القادة العسكريين والنوويين، وقتلها لما يزيد على ألف إيرانى مدنى، لكن القتل لا يعنى القتال دائما، ووقائع القتال لا تعنى ضمان نتائجه، فلم تحقق “إسرائيل” نصرا بما قتلت، وكانت مفاجأة الحرب الحقيقية استراتيجيا فى مكان آخر، فى التطور التكنولوجى الهائل لصواريخ إيران الباليستية والفرط صوتية متعددة الرءوس، وهو ما دفع “ترامب” للضغط على “نتنياهو”، ووقف الجولة الحربية إلى حين، رغم استعراضاته الهزلية وتباهيه بنجاح موهوم لغارات “بى 2” وأم قنابلها “جى.بى.يو 57″، التى توقعتها إيران، وتحسبت لدمارها بإجراءات احتياط مسبقة، ودونما خضوع بعد الحرب لاستدعاءات متعجلة إلى التفاوض، وهو ما زاد من حنق “ترامب” وبهلوانياته، واندفاعه إلى ما أسماه وقف تخفيف العقوبات المغلظة على إيران، التى سارع مرشدها “خامنئى ” لإعلان النصر هو الآخر، وبما أفسد فرحة “ترامب” المصنوعة بقوة أمريكا وبطياريها وبطائراتها وبقنابلها الأضخم التى استخدمت لأول مرة، وقد لا تكون آخر مرة مع النهاية المفتوحة الناقصة لدراما قتال الإثنى عشر يوما، تماما كما أفسدت مقاومة “غزة” الصغيرة فرحة “نتنياهو” الصاخبة المفتعلة ، ففى نفس وقت إعلان “نتنياهو” النصر على إيران ، كانت كتائب المقاومة الأسطورية تنزل ضربة مباغتة بقوات الاحتلال فى غزة ، وتحرق ضابطا وستة جنود فى ناقلة جند بعبوة “شواظ” جنوب “خان يونس” ، وتزيد خسائر العدو إلى عشرين ضابطا وجنديا فى يونيو 2025 ، وتضاعف معدلات عملياتها الفدائية وكمائنها المركبة ، ويقول السكرتير العسكرى لرئيس وزراء العدو “نتنياهو” ، أن “حماس” لديها اليوم ما يزيد على عشرين ألف مقاتل ، وأن هدف القضاء على “حماس” لم يتحقق بعد ، رغم اتصال حرب الإبادة الهمجية لأكثر من 21 شهرا ، ورغم القتل المنهجى الوحشى لأهل غزة ، وتدمير البشر والحجر والشجر ، ومحو “غزة” بكاملها تقريبا ، وارتكاب فظائع و”هولوكست” غير مسبوق ، صمد لهوله الشعب الفلسطينى فى عذاب أسطورى ، وأثبت بحق أنه “شعب الله المختار” بوقائع التاريخ الدامى الجارى ، ومن دون أن يتحقق هدف القتل أبدا ، رغم ارتقاء مئة شهيد فلسطينى يوميا ، واستثمار تجويع الشعب الفلسطينى فى قتله بالنار عند مصائد ما يسمى مراكز توزيع المساعدات المتفق عليها أمريكيا و”إسرائيليا” ، ورغم كل هذا البلاء الذى لم يصادفه شعب آخر فى التاريخ بإطلاق حروبه ومجازره ، فإن الشعب الفلسطينى الصابر المحتسب ، لم يرفع رايات الاستسلام ، ولا هجر أرضه المقدسة المدمرة ، ولا توقف مدده البشرى النبيل لطلائع مقاومته الأسطورية ، فلم يفز العدو الأمريكى “الإسرائيلى” فى حرب الإبادة ، ولن يفوز فى حيل التفاوض المصطنع ، فما لم يكسبه بقتال وبقتل ، لن يحصل عليه بألعاب التفاوض ، وقد يكون العدو قتل وجرح مئات الآلاف ، لكنه يثبت عجزا مقعدا فى كل نوبات القتال من المسافة صفر ودونها ، ويخفق فى مواجهة كتائب مقاومة سدت عليها كل المنافذ ، وقتل أغلب قادتها ، ولا يعطيها أحد طلقة رصاص ولا شربة ماء ، بل تصنع سلاحها بذاتها وفى أنفاقها ، وتأخذ سلاح العدو وقنابله غير المنفجرة ، وتعيد هندستها عكسيا إلى قذائف وعبوات ناسفة ، تدمر بها مدرعات العدو ودباباته وتحرق وتقنص جنوده ، وتواصل حرب استنزاف عبقرية ضد خمس فرق “إسرائيلية” توغلت فى كل قطاع “غزة” ، ولا شئ يردعها عن قتال العدو ، ولا قتال البدلاء العرب ، إن هم خاطروا ، وارتكبوا خطيئة العمر بالذهاب إلى “غزة” كمحتلين .
وفى المحصلة بالجملة ، فلا فرصة قريبة لإغلاق ملف الحرب من “غزة” إلى إيران ، ولا لاتفاقات “أبراهام” جديدة ، فالحروب فى المنطقة تجدد حرائقها ، وتذهب إلى ملاحق استئناف دموى لا تنتهى فى المدى المنظور ، حتى لو توقف إطلاق النار إلى حين .